تغريبة كبيرة في طريقها للمنظمات غير الحكومية (NGOs) في مصر؟ تغريبة (إسم)، غرَّبَ (فعل). تَغْرِيبُ الْمُسَافِرِ: اِتِّجَاهُهُ صَوْبَ الغَرْبِ، وََنُزُوحُهُ عَنْ وَطَنِهِ. أَرَادُوا تَغْرِيبَهُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْهُ: حَمْلُهُ عَلَى الغُرْبَةِ، إِبْعَادُهُ.
معانٍ كثيرة في اللغة، ومعانٍ أكثر في السياسة، يمكن أن نفهمها من ثنايا تقرير «التغريبة الثالثة» الصادر عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان أخيراً. شهادات مؤلمة ودالة، عن هجرة المصريين غير الطوعيّة لأسباب تتعلق بـ«موت الديموقراطيّة» في وطنهم. «مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان»، جرى تغريبه إلى تونس بعدما كان مقرّه الرئيسي في القاهرة. مؤسسات أخرى أغلقت منذ أشهر أبوابها، وغُرِّبت عن مصر.
لا شك أن المعنى الأكثر إيلاماً للتغريب هو أن تشعر بالتغريب وأنت في الداخل. معنى يفهمه الحقوقيون المحبوسون في الداخل بقرارات قضائيّة. المؤسسة الحقوقيّة التي أصدرت هذا التقرير، مهددة بالإغلاق بعد صدور قانون الجمعيات الأهلية الجديد من البرلمان، ومديرها جمال عيد، وفريق من القانونيين والباحثين معه، ملاحقون في قضية التمويل الأجنبي. حالتا الاغتراب، والقلق، اللتان تعكسهما شهادات المُهاجرين قسرياً، تطاردان المُشرفين على التقرير، وكل الحقوقيين الذين دأبوا على رصد انتهاكات حقوق الإنسان. قضيّة التمويل الأجنبي، تطاول الجميع.
السؤال: هل نتحدث عن الأيام الأخيرة في حياة الـNGOs المصريّة؟ هل تقاوم حتى الجولة النهائية؟ بالأساس، هي ملاكمة من الوزن الثقيل. الدولة المصرية عينها على الضّربة القاضية. قوائم المنع من السفر، وقرارات التحفظ على الأموال تتزاحم. قانون الجمعيات الأهلية الجديد (راجع «الأخبار» العدد ٣٠٤٧)، يقضي فعليّاً على «المجتمع المدني»، ويحيل أمر إدارته للأجهزة الأمنيّة. ما تسمّي نفسها المؤسسات المستقلة، تعرّفه بـ«القانون ــ المذبحة»، وهي تلمْلم أوراقها في حقيبة المجهول.
إيقاع الضربات آخذ في التسارع. الناشط الحقوقي المعروف بانتقاداته اللاذعة للسلطة، قال إن جهات أمنيّة شَمّعت مقار مكتبات تقدم خدمات ثقافيّة للأطفال في الأحياء والمناطق النائية، وهي تابعة لمؤسسته (الشبكة العربية)، قبل يومين. المحامي الحقوقي نجاد البرعي، يقول إن ثلاثة أجهزة «لابتوب» سُرقت من مقر مكتبه القانوني، ويُرجِّح أن تكون جهات أمنيّة وراء الواقعة.
الحقوقيون قلقون أكثر. متشائمون من سيناريو كارثي ليس ببعيد: سيف السّجن مُصلَت على رقاب المُدافعين عن حقوق الإنسان في بلد عازم على إغلاق البراح العام، بالضبّة والمُفتاح: (من يتلقى تمويلاً أجنبياً بطريقة غير مشروعة، بموجب المادة 78 من قانون العقوبات، وارد أن يُعاقب بالسجن 25 عاماً). القضية 173 الخاصة بتمويل منظمات «المجتمع المدني»، تطلّ برأسها في كل دقيقة، وقريباً ستُحال إلى محكمة الجنايات.
البعض قلق من أحكام قاسية في انتظار المتهمين الذين يشكلون، نُخبة قانونية وحقوقيّة، كانت لها أدوار في دعم ثوار «يناير»، وفضح انتهاكات حقوق الإنسان، في زمن المخلوع مبارك، والمجلس العسكري، وحكم «الإخوان»، وصولاً إلى عهد السيسي الذي يقول عنه جمال عيد في مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في نيسان/ إبريل الماضي: «نظام السيسي يواجه تحديات أكبر بكثير من تلك التي كانت تواجه مبارك في أواخر أيام حكمه، بخاصة في ظل اقتصاد يتردى، وحرب طاحنة لمكافحة التطرف في سيناء، وتفشي حالة واسعة من عدم الرضى الشعبي. من الصعب أن نتصور الحكومة الحالية تواجه هذه الأزمات على جبهات عدة من دون الاعتماد على الأساس الصلب الذي توفره منظمات المجتمع المدني. ولذلك يبدو هجوم السيسي على المجتمع المدني قصير النظر جداً».
الصدام بين المنظمات الحقوقية، والأنظمة السياسيّة في المحروسة، ليس بجديد. في أيّام مبارك، كانت الدولة تتحرّش بتلك المؤسسات لكن الضغوط الدوليّة كانت تدفع نظام مبارك إلى التراجع. في الأيام الأولى لـ«ثورة يناير»، اقتحمت الشرطة العسكرية وأفراد أمن، عدداً من مقار تلك المنظمات، بزعم أنها «توزّع وجبات، وبطانيات على المحتجين في ميدان التحرير»، وتتبنى مطالبهم، وتحرّض المنظمات، والدول الغربيّة، على إسقاط النظام.

القانون الجديد يقضي فعليّاً على «المجتمع المدني» ويحيل أمر إدارته للأجهزة الأمنيّة


ليس هذا فحسب، بل إن الدّولة تعرف جيداً أن المحامين الحقوقيين، كانوا أول من رفعوا دعاوى قضائية، ضد اتفاقية «تيران وصنافير» مع السعودية وشكلوا جبهة من المحامين للدفاع عن مئات المتظاهرين المحبوسين، على ذمّة هذه القضية التي أثارت جدلاً واسعاً داخل مصر وخارجها. قصة، أغضبت السلطة، وأحرجتها في أكثر من موقع، وهي واحدة من أسباب كثيرة تدفع الدولة لتسريع «الضربات».
في المحافل الدولية، وقع أكثر من صدام. مؤسسات «المجتمع المدني» تتهم السلطة المصرية، بتقويض وعرقلة آليات مراقبة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، خصوصاً مجلس حقوق الإنسان، ومفوضية الأمم المتحدة السامية، بدعاوى ومصطلحات فضفاضة مثل «مكافحة الإرهاب»، و«السيادة» و«الأمن القومي». ممثلو الدولة في آليات المراقبة الدّولية، يتهمون ممثلي هذه المنظمات، بالعمل ضد الأمن القومي، و«تشويه صورة مصر أمام العالم». السلطة ترى أن هذه المنظمات تشغل الفراغ الذي خلفه موت الحياة الحزبيّة، فتقوم بأدوار توعويّة وسياسيّة، تعرّف المواطنين على حقوقهم، وتدعمهم إذا ما قرروا التحرّك صوب تحقيق مطالبهم بالأشكال الاحتجاجيّة.
فكرة «المجتمع المدني» واجهت عوائق عدّة: المناخ ولحظة التكوين. انهار الاتحاد السوفياتي، وتراجع اليسار في مصر بشكل حاد. كان هناك قلق ممزوج بخيبة أمل في أوساط الشباب اليساري الذي بدأ يبحث عن مشروع بديل لتفريغ الطاقة السياسيّة. أسس بعض المُحبطين، مؤسسات حقوقيّة، وواجهوا اعتراضات ضخمة من رفاقهم السابقين الذين رأوا أن نظرية إصلاحيّة استبداليّة (المجتمع المدني) كهذه، هي تراجع حاد، وخروج عن المبادئ الأساسيّة للنظرية الماركسيّة التي تتحدث عن بناء الحزب الثوري من أسفل، والنضال الموقعي.
تراجعت هذه النظرة الآن، كثيراً، لأسباب لا تتعلق بغياب وجاهتها السياسيّة، لكن لأن التيار الثوري في اليسار تراجع وحلّت محلّه، ما تسمى أحزاب اليسار الديموقراطي النخبويّة. في هذه النقطة، يرى البعض أنّ المنظمات الحقوقيّة بريئة، وهي ليست المتهم الرئيسي، بسحب كوادر وشباب اليسار وقوى المعارضة، إلى أرضيتها، لكنّ البنيّة النخبويّة والعصبويّة، لهذه الكيانات، وفشلها في اقتناص الفرص الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تراجعها الكبير.
على مستوى الرصد، عرقلت الدّولة جزئيا،ً عمل أول منظمة حقوقيّة عام 1985 (المنظمة المصرية لحقوق الإنسان). وهي ضمّت محامين، من خلفيات سياسيّة يسارية، وقومية (أحمد نبيل الهلالي، محمد السيد سعيد، عايدة سيف الدولة، هشام مبارك، وآخرين). اشتغلت تقارير المنظمة المصرية على الطوارئ، وانتهاكات حقوق الإنسان، في أقسام الشرطة، وبعد سنوات قليلة، خرج معظم المؤسسين، وترأسوا مؤسسات مستقلة جديدة. الرئيس الحالي، للمنظمة، المحامي حافظ أبو سعدة، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، مُتهم بتحويل المنظمة الأم، إلى منظمة حكوميّة (Gongos)، في ذيل السلطة.
الانتقادات الموجهة للمنظمات الحقوقية، لا تخرج فقط من الأجهزة الرسميّة. بعض نشطاء اليسار والتيار الناصري، الذين ارتبطوا بالحركة العماليّة، والطلابية، في شبابهم، باتوا جزءاً من ديكور السلطة (المجلس القومي لحقوق الإنسان)، والبعض الآخر (العدد الأقلّ) لكونه جمعيات حقوقيّة مموّلة، لكن لم يتداخل في تنسيقات مباشرة مع أجهزة الدولة، بل شارك بشكل فعّال في تقديم الدّعم القانوني لمحتجين جماهيريين، وأبرز مثال ما تسمى جبهة الدفاع عن المتظاهرين.
هناك «ثأر» بائت منذ 2011 مع منظمات «المجتمع المدني» التي لم يتأثر عملها، في عهد محمد مرسي، والمجلس العسكري. في أعقاب انتفاضة «30 يونيو» 2013، وجهت الدّولة حملة لتهيئة الأجواء عبر منافذ عدّة (وسائل إعلام ــ ملاحقات قانونيّة ــ خطابات رئاسيّة)، للإجهاز على الأصوات الحقوقيّة. الدولة (وقت حكم المجلس العسكري)، تعرضت لحرج بالغ في الداخل والخارج، بعد واقعة تهريب المتهمين الأجانب الـ17 في قضيّة التمويل (أول آذار/ مارس 2012) على متن طائرة أميركيّة خاصة. أُغلقت القضيّة، وفُتحت (الشقّ الخاص بالمتهمين المصريين) أوائل العام الجاري.
وبرغم أن أصداء هذه القضية، تعرّضت السلطة في مصر لانتقادات دوليّة واسعة، لكنها غير عابئة، وماضية في تجفيف منابع تمويل المنظمات الحقوقية. هل هناك عوامل خارجيّة مُساعدة؟ احتفت وسائل إعلام محليّة، بفوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، بالانتخابات الأميركية، على المرشحة هيلاري كلينتون التي توجه لها اتهامات شبه رسميّة، بأنها (وباراك أوباما) دعما «الإخوان»، وجمعيات حقوق الإنسان، بهدف نشر الفوضى في البلاد.
البعض متفاجئ من سرعة اللكمات التي تصوّبها الدولة، لكنّ الاستغراب يتبخّر. ويقول مراقبون، إن مشهد تأميم العمل الأهلي الحقوقي، جزء من «فيلم» تأميم أوسع، يطاول قريبًا الإعلام، والصحافة (الحكم بسجن نقيب الصحافيين يحيى قلاش ليس ببعيدالحكم بسجن نقيب الصحافيين يحيى قلاش ليس ببعيد)، بتشريعات تُعدّ في برلمان لا يختلف كثيراً عن آخر برلمانات حسني مبارك.