يبتسم سائق التاكسي على الحدود اللبنانية ـ السورية عند طلب الذهاب إلى مضايا. «مزحة» لا يحتمل أن تتحوّل إلى حقيقة. «إلي سنين ما طلعت على هيدا الخط، أكيد نسيتو، أو بفضّل انساه»، يقول أحد السائقين العموميين عند نقطة جديدة يابوس السورية.
من سائق إلى آخر «ينتقل الحِمِل». القاعدة أصبحت مقلوبة: سائقون «يتعازمون على الراكب». هل الطريق مفتوحة؟ هل هناك طريق مدنية بالأصل؟ ماذا سنقول لعناصر الحواجز؟ وابل من الأسئلة نشأ عند ذكر المنطقة الساخنة إعلامياً.
أخيراً وافق ابن قرية الديماس المجاورة على تولّي «المغامرة». «كنت آخذ أولادي إلى مضايا... كانت رحلات السعادة الأسبوعية، فلنمضِ والاتكال على الله»، يقول مروان قبل أن يدير محرّك سيارته. في الطريق القصيرة جغرافياً، يستغرب العساكر على الحواجز المنتشرة ذِكر الوجهة. «اليوم ستدخل المساعدات، والإعلام سيدخل للتغطية» يؤكد الضابط، لنمضي بسلام من حاجز إلى آخر. لا شيء يوحي بموطن المياه في المنطقة الشهيرة بينابيعها سوى «الأنهر» المنسكبة على الطرقات. «الزرع متروك لربّو»، يقول مروان منزعجاً.
أمام حاجز على بعد مئات الأمتار من «البلدة الحدث» تجمّع الإعلاميون بانتظار تحرّك قوافل المساعدات. طال الموعد قرب محطة وقود تابعة للجيش.
«ميكرو» صغير ينساب بين الجموع ليتوقّف قبل أن يصل إلى النقطة العسكرية.
تبدو المسألة عادية بسبب تحرّك الجندي نحو الباص بنحو طبيعي. يفتح الباب ليتفقّد الركاب، ثم تنزل طفلة وعلى ظهرها حقيبتها المدرسية. تتحرك وحيدة نحو منزلها القريب ليعود الباص نحو قرية التكية المجاورة.
رتابة المشهد تزداد مع اشتداد البرد. الجميع يترقّب خبراً من دمشق. تتحرك قوافل المساعدات من حماه باتجاه كفريا والفوعة المحاصرتين في ريف إدلب، فيسمح بتقدّم الإعلاميين نحو البلدة. أمام قوس مضايا كانت محطة الانتظار الثانية. بعض أهالي سهل مضايا دفعتهم الحشرية إلى الاقتراب من الكاميرات.
اشترط المسلحون تسلّم المساعدات عند دخولها

3 نسوة بَدَون كأنهنّ صحافيات. سألن يمنة ويسرة «الضيوف» والعساكر عن موعد المساعدات... وعن أقارب لهنّ في الداخل. إحدى السيدات لم ترد الظهور أمام الكاميرا قبل أن تكمل «رسالتها»: «تصلنا أخبار سيئة من مضايا. الغلاء غير طبيعي والجوع والمرض ينتشر أكثر فأكثر».
على الرصيف المقابل تجمهر البعض قرب لافتة بلدة الزبداني. مدخل المدينة الهادئة عسكرياً يسمح للقاطنين بانتظار لسعة شمس دافئة على الطريق العام.
على الجانب الآخر، تحت لافتة مضايا كانت الكاميرات تلتقط صور المتجمعين على بعد عشرات الأمتار خلف حاجز للجيش السوري.
دقائق وتظهر هويتهم... عشرات العائلات تطلب الخروج من مضايا، رافضة العودة إلى البلدة. نصف ساعة إضافية، ويظهر «بند من خارج جدول الأعمال». مدخل مضايا استحال قاعة انتظار لمسافرين، و«الفيزا» هي الهوية الشخصية. هو موعد مع خروج 50 عائلة من الزبداني و17 من مضايا و17 من بقين، إلى الحرية، أي عند أقاربهم في دمشق ومحيطها.
النازحون في مضايا وبعض أهلها جمعوا حاجاتهم وجلسوا «يحرسونها»، بانتظار «الإذن».

الخبز أولاً
«أول شي بدّي آكلوا الخبز بعدين الحلو»، يقول الطفل عدنان، و«المَصل» معلّق بيده لمراسل التلفزيون الصيني. نسيَ الجميع القوافل واتّجهوا بحثاً بين الوجوه الشاحبة عن خبر من «الداخل».
يجمع الوالد حاجات عائلاته في مكان واحد قبل التفتيش. ابنتاه ميرنا وزهرة تريحان ظهرَيهما من الحقائب. «جوعانة؟» تسأل أمها. تهزّ برأسها إيجاباً. تخرج الوالدة لوح شوكولا. «هيدا أبو المية (100 ليرة) احزر أدّيش حقو جوّا... 2000 ليرة»، يخبر الوالد.
تكرّ سبحة الأسعار المضروبة بـ50 ومئة. أرقام فلكية معروضة على بسطات في شوارع البلدة. «تجار يوزعون بضاعتهم على بسطات عدة. يطلع سعر ويزيد ع كيفهم»، يروي أبو أحمد. لا يعرف الرجل من يلعن... جاره الذي استفاق ذات نهار ليخبره أنه انضّم إلى «حركة أحرار الشام» و«يتحكم بالحارة»، أو السلاح الذي دخل بلدته أو الحرب بكافة أفرقائها.
دفع الأربعيني كل مدخراته. يحصي خسائره بالتوازي مع الشكر والتسبيح. ينادي العسكري للوقوف بالصف بداعي تأكيد الأسماء، فينسى السلاح والغلاء والأمراض: سنخرج من الجحيم إلى غير عودة.
آية الجالسة على حقيبة سفر كبيرة تراقب عصافير والدها الموزعة على قفصين. 30 كناراً، تميل رأسها مع تنقلاتها، لتعود وتبحث بعينها عن أمها وأخواتها. الكل حولها... يعود «الأمان» فتعود للعصافير الصفراء.
أبو معتصم لا يستغرب إخراجه «سَلْوَتَه» الوحيدة بالأقفاص. يضحك قبل أن يحلف حول كلفة طعام «أصدقائه»: «20000 ورقة (ليرة) الكيلو... اشتريت أوقية وكنت أفكّر بتكرارها لكن الحمد لله خرجنا». ينظر إلى ابنته آية، فتنطق تلقائياً: «مبسوطة رايحة عَ الشام».
نحو الرابعة عصراً، حلّ «برد مضايا». الثلوج حول الجبال القريبة تزيد وطأة القشعريرة المستمرة. تبدأ الأخبار من إدلب بالوصول. «جيش الفتح صادر المازوت والأدوات الطبية، ويفتّش كل قافلة» قبل دخولها كفريا والفوعة، يقول مصدر معني بالاتفاق.
تغيب أخبار القوافل ويعود المتجمهرون إلى الصف. «يلا طلعوني الجيش. جايي لعندك (زوجها) حوّلي وحدات (رصيد للهاتف الجوّال). إذا ما حْسِنت أوصل ع الشام رح مرّ لعندك»، تصرخ المرأة المنفعلة فرحاً على الهاتف.
فُرجت أمام ابنة بقّين بينما يطول الصفّ أمام أهالي مضايا والزبداني أمام النقطة العسكرية. «جوعانين وبدنا نضهر»، تصرخ الطفلة، فيردّ آخر: «لن نعود لفوق (للبلدة)».
لا ينكر أحد حالات الجوع والمرض في مضايا. «كيف لا نجوع والمساعدات لا توزّع بنحو سليم والحصار موجود والمسلحون والتجار يتحكّمون بالبضائع الموجودة وبأسعارها»، يقول عجوز يحمل بيده كيساً فيه بعض الأغصان «للتدفئة».
عدد كبير من العائلات تريد الخروج، لكن المسألة تتخطى الجرأة في الوصول إلى مدخل البلدة رغماً عن نحو 600 مسلح يتحكمون بمصير 23000 ألف إنسان.
العلاقات المتشابكة، وتوزّع المسلحين بين تنظيمات «أحرار الشام» و«جبهة النصرة» وعدد أقل في «داعش» و«الجيش الحر» يزيد الامور تعقيداً لكونهم من البلدة ذاتها. «هم من ينتقم ويعرفون سلالة كل شخص»، يقول العجوز الذي لم يعد لديه شيء يخسره.
دياب ناصيف المسؤول في «أحرار الشام»، وموسى المالح، وزياد بندر، أسماء معروفة في القرية: «مسلحون وتجار ولديهم مستودعات». بحسب المعلومات، المساعدات التي دخلت مضايا في 18 تشرين الأول الماضي، تقاسمها ناصيف ومساعدوه و«أمراء» آخرون، ووُزِّع جزء منها تبعاً للمحسوبيات، ليُخزَّن ويُباع القسم الأكبر الباقي.
انتهى اليوم الطويل، أمس، بدخول 44 شاحنة مساعدات إلى البلدة الدمشقية، بعد دخول قوافل شبيهة إلى كفريا والفوعة. وفدا «الصليب الأحمر الدولي» والأمم المتحدة كانا قد سبقا دخول القوافل، بعقدهما اجتماعاً مع لجنة من المجموعات المسلحة ومن وجهاء البلدة.
«المرصد» المعارض أفاد بأنّ أهالي البلدة طردوا المسؤول العسكري في «أحرار الشام» دياب ناصيف من مكان إقامته بسبب محاولته إدخال المساعدات إلى المستودعات. الخبر لم يعدُ كونه نفحة غضب أفرغها محزونون على مدينة لم تعرف النوم في أيام السلم والحرب. المصيَف الشهير تحكّمت فيه أمس أيضاً شلّة ناصيف وأصدقائه. «لا دخول للمساعدات إن لم نتسلّمها نحن»، أكدوا للوفود المجتمعة.
قبيل منتصف الليل، كانت مستودعات «ثوار» مضايا تمتلئ بالمواد الغذائية والطبية. جزء من الأهالي المنتظرين في بيوتهم بحثوا عن «كاسة البرغل»، وضعوها على النار. «أكل» الجميع جوعهم، وناموا على خبر «عبور» جميع العائلات المحتشدة أمام مدخل البلدة.
سيعود اليوم شريط الحكاية إلى أوّله. جوع ومرض وتجار «حسب الشرع». قد تظهر صور وشرائط جديدة. الفقير له دور دائم في فصول الحرب. سيجهّز قاضي «جيش الفتح» السعودي عبدالله المحيسني صواريخه الـ300 التي توعّد بها أهالي كفريا والفوعة رداً على حصار «إخوة» لا يعترفون به. قد لا يستطيع التحكّم بمسار اتفاق الهدنة. هو ليس تركيا، بل «أمير» في بلاط الثورة. المهم، جمع المال اللازم لصواريخه، وما على أهالي مضايا وكفريا والفوعة وكل نقطة حاصرتها الحرب في سوريا سوى الدعاء حالياً.