أكثر ما كان يلفت نظر المارة في شارع الفردوس وسط العاصمة دمشق، أن الأعداد الغفيرة، التي كانت تقف يومياً على باب المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية لتقديم أوراقها لمسابقة التوظيف، جلّها كان من الإناث. صورة لا تختلف كثيراً عن العديد من مطاعم دمشق ومقاهيها على اختلاف تصنيفاتها السياحية التي بدأت تستعين أخيراً، وعلى نطاق واسع، بالفتيات، اللواتي يبدو أن الحرب أرغمت بعضهن على الدخول باكراً إلى سوق العمل.
واللافت أن حضور المرأة المتزايد في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لم يقف عند المجالات والاختصاصات التقليدية، وإنما تعداها إلى أنشطة وأعمال اشتهرت بحصرية الرجال على القيام بها، فاليوم هناك فتيات وسيدات يتدربن على ممارسة مهن مرتبطة بأعمال البناء، من قبيل التمديدات الكهربائية والصحية، فضلاً عن مجالات التدريب والتأهيل. وبحسب لينا ديب، المدربة في مبادرة تدريب وتأهيل مليون شاب سوري، فإنه «من خلال تجربة المبادرة الممتدة خلال فترة السنوات الخمس الماضية، نلاحظ أن هناك تزايداً في عدد الحضور من الفتيات والسيدات بشكل مطرد، لتتجاوز النسبة أخيراً الـ 65% من الحضور في الدورات التدريبية». وتضيف في حديثها إلى «الأخبار» أن «إقبال الفتيات والسيدات على الدورات كان يختلف حسب طبيعتها خلال المدة المذكورة، فكنا نجدهن في دورات المهارات العامة ودورات التنمية البشرية، أما الآن فنحن نجدهن في الدورات الإدارية والتخصصية المختلفة المرتبطة مباشرة بسوق العمل كإدارة الموارد البشرية، ومهارات الإدارة، بما يشير إلى بحثهن عن إضافات حقيقية لسيرهن الذاتية من خلال التوجه نحو التخصص، وانتقاء الدورات بما يخدم بناء مستقبلهن الوظيفي ويقدم قيمة مضافة لتاريخ عملهن». إلا أن هناك شريحة من النساء زاد حضورها بفعل «حالة الانهيار التي شهدتها منظومة المفاهيم والقيم الاجتماعية خلال فترة الحرب» بحسب ما يرى باحث اقتصادي.
نسبة البطالة بين الإناث ضعف نسبتها لدى الذكور

ليس أكثر من انطباع
هذا هو الانطباع العام الذي يخرج به الزائر لدمشق وغيرها من المحافظات، التي استنزفت الحرب فئاتها الشابة، سواء على جبهات القتال أو على جبهة الهجرة واللجوء، إلا أنه يبقى، بحسب عميد المعهد العالي للدراسات السكانية، الدكتور أكرم القش، «في إطار الانطباع العام، ولا يعكس بالضرورة حقيقة ما تشكله المرأة اليوم من قوة العمل السورية». ويضيف لـ«الأخبار» أن «التقديرات الإحصائية الأولية اليوم تشير إلى أن بطالة المرأة توازي ضعفي بطالة الذكور، ثم أين هي فرص العمل التي ظهرت في هذه الأزمة، وسمحت للمرأة بالتفوق على الرجال في مجال فرص العمل».
رأي القش هو ما تذهب إليه أيضاً دراسة غير منشورة أعدتها حديثاً هيئة شؤون الأسرة، وتتناول التقديرات الأولية لانعكاسات الأزمة على الواقع السكاني في سوريا، إذ تؤكد الدراسة أن «الفجوة الجندرية في التشغيل خلال الأزمة ستتعمق، إذ من المتوقع أن تقترب نسبة البطالة بين الإناث من ضعف نسبتها لدى الذكور، كما أن شريحة الشباب هي الأكثر تأثراً في تقلص فرص العمل المتاحة، إذ من المتوقع أن تشكل نسبة المتعطلين الشباب 42% من قوة العمل، وبين الشباب أنفسهم حوالى 66%».
وإن صحت هذه التقديرات، فهذا يعني أنها تمثل استمراراً لواقع الحال المسجل خلال سنوات ما قبل الأزمة، حيث إن بيانات الإحصائيات الرسمية كانت تشير إلى «تفاوت نسبة البطالة بين الذكور والإناث، إذ وصلت بين الإناث إلى نحو 11,1% عام 1994، وارتفعت إلى الضعف تقريباً بين عامي 2004 و2009. أما لدى الذكور، فقد كانت النسبة 6,3% وارتفعت إلى نحو 10,5% خلال الفترة نفسها».
لكن مقابل ذلك، هناك مؤشرات أخرى وليدة الأزمة تدفع باتجاه الحديث عن تحسن «إجباري» لحضور المرأة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، منها على سبيل المثال أنه في الوقت الذي شهدت فيه توقعات الحياة لدى الذكور انخفاضاً كبيراً بسبب انخراطهم بالأعمال العسكرية، فإن هذا التراجع كان لدى الإناث ضمن حدود قليلة. كما أن نسبة المهاجرين الذكور هي أعلى بكثير من نسبة المهاجرين الإناث.

إعادة انتشار
على الطرف الآخر، وبعيداً عن البيانات والمؤشرات الإحصائية، تستمر عين المجتمع في تتبع المتغيرات التي طرأت فعلياً على عمل المرأة وحضورها خلال سنوات الأزمة، فالمدربة ديب تلاحظ مثلاً «أن حضور الفتيات والنساء للدورات المرتبطة بإدارة المشاريع والمشروعات الصغيرة لخلق أفكار مختلفة قلما كانت تطرق سابقاً من قبل النساء، أما اليوم فبتنا نجدهن أكثر جرأة في خوض غمار التجارة المعتمدة على التنقل والمغامرة البحتة، أو في المشروعات الصناعية البسيطة». باختصار، عندما تنخرط المرأة مباشرة في أتون العمل العسكري وتتقدم إلى جبهات القتال، فإن شيئاً ما قد تغير في الحضور الأنثوي على صعيد العمل والمشاركة الاقتصادية والاجتماعية خلال فترة الأزمة، حضور قد يشكل نواة لمتغيرات ديموغرافية مستقبلية كبيرة.