أريد أن أرى سوريا. أريد أن أعرف طبيعة الحدود التي تفصلنا عنها، وأن أدقّق في تفاصيل المكان الذي يستوطن القلب والخيال منذ سنوات. أتيت منذ سنين في رحلة سابقة، ولكن هذه الرحلة أيضاً ستكون مختلفة لأني أذهب إليها وأنا محمّلة بوعيٍ سياسي جديد، خُلق ذات يوم لمّا وضعت سؤالاً صغيراً - لكنه معقّد - في محرك البحث على الإنترنت "ما حقيقة ما يجري في سوريا؟".
أكثر من أربع سنوات وذلك الوعي ينمو خلال بحثي عن خيوط الحقيقة الرفيعة في ما جرى ويجري، كنت أبحث عنها في نقاط التشابه بين من هم مع ومن هم ضد، وأبحث عنها في تناقضات الأقوال عند كل طرف، في رحلة البحث تلك، نما وترعرع في قلبي الحب والاهتمام بوطني الثاني الذي لم أره يوماً، لكنه وببطء تسلل إليّ وسكنني. في رحلتي هذه سأكتشف حقيقةً كبيرة، وستسقط من عيني دمعة، وسيتملّكني الحقد.
تماماً كما الحياة، تسير كلّ أيامها وساعاتها إلى النسيان إلّا لحظات محدّدة دون سواها، تسقط علينا بقوة فتحرك مشاعرنا، فتعلَق في الذاكرة وتُحفر كصور في ثنايا الدماغ، كذلك كانت رحلتي هذه التي حوت ثلاث صور لثلاثة مواقع، استقرت تلك الصور في الروح والعقل وعادت معي إلى البيت لتبقى تعتمل وتتقلّب في داخلي لتخرج إلى العلن، حتى استسلمت لها وها أنا أكتب عنها: حروف وأرقام عربية محفورة على مدفع سوري، امرأة سورية تلبس ثوباً أحمر و"إسرائيليون" متدينون تعلو وجوههم ابتسامات شماتة...
أول وصولنا كان إلى منطقة تل الساقي، وهي تلة من تلال الجولان شهدت في حرب تشرين عام 1973 معركة شرسة بين الجنود السوريين والجنود "الإسرائيليين"، على هذا التل سقط 28 عسكرياً "إسرائيلياً" ما بين قتيلٍ وجريح عندما استطاعت القوات السورية اقتحامه، لا تزال مخلفات تلك المعركة معروضة للزوار، أسماء وصور القتلى "الإسرائيليين" محفورة على حجر من البازلت، بقايا آلات ودبابات "إسرائيلية" ومدافع سورية، اقتربت من مدفع سوري، رحت أتحسّسه وأدقّق في تفاصيله، وقع بصري على حروف وأرقام عربية محفورة عليه، بدت الكتابة ساحرة، شعرت بالفخر، فهذه أول مرة في حياتي أرى آلة حرب عربية، كل ما رأيته سابقاً كان "إسرائيلياً".
بعد ذلك سارت بنا السيارة لساعات في مناطق مرتفعة واسعة خضراء مرتوية بالماء، يدرك المرء بيسر وهو يسير في هذه المنطقة كيف لا يمكن أن تتخلى "إسرائيل" عنها. خرجت من السيارة، وقفت ونظرت باتجاه الشرق، رحت أتأمّل المكان، أنا الآن على الجهة المحتلّة من الجولان وأنظر مباشرة بالعين فأرى الجهة السورية، إنني أقف على الحدود وأنظر إلى سوريا من فلسطين. قلتُ لمن معي: "أهذه هي الحدود التي تفصل فلسطين عن سوريا! كم هي هشّة وبسيطة! لا نحتاج لقطعها إلا لشيء واحد، الإرادة". نظرياً كنت أظن أنّ العرب ضعفاء وإسرائيل قوية، وبأن قطع الحدود مستحيل، لقد حشوا رأسنا بخرافات فارق القوة. لكنّ الحقيقة على أرض الواقع مختلفة تماماً، فسوريا تلامس فلسطين وكذلك لبنان، والفاصل بينهما سلك شائك حديدي يُقطع بحجر. طبعاً هنالك مساحات يُقال مليئة بالألغام لكن، صدقوني، عندما تنظرون إليها بالعين مباشرةً يبدو لكم أمر العبور يسيراً. قلت أيضاً: "ماذا لو زحف العرب من هذه الحدود من شتى الجهات؟"، وأجبت نفسي: "ستُمحى "إسرائيل" من الوجود خلال ساعات".
بعد ذلك سرنا نحو منطقة تل العرام وهي تلة مرتفعة من تلال الجولان تقع غرب مدينة القنيطرة بحوالى 3 كلم، في شمال شرقي الجولان، أقيمت عليها مستوطنة مروم جولان، وهي أول مستوطنة أنشئت في الجولان في 14 تموز 1967، قامت "إسرائيل" بتغيير اسم تل العرام - الذي سمي بذلك لأنه يشبه في شكله عرمة القمح - إلى تل الغرام وهي تسمية تركية قديمة للمكان. أستطيع الآن أن أرى مدينة القنيطرة السورية التي – وللتذكير- عمد "الإسرائيليون" إلى تدميرها بشكل منظم قبل انسحابهم منها عام 1974 ورفضت سوريا إعادة إعمارها قبل عودة كل الجولان للسيادة السورية.
يضع "الإسرائيليون" مناظير للسواح لرؤية سوريا عن قرب، سارعتُ إلى أحدها ونظرتُ من خلاله فرأيتُ بيوت مدينة القنيطرة المهدّمة حديثاً بفعل الحرب الدائرة في سوريا، رؤية آثار الحرب والدمار بالعين آلمتني، وبالكاد استطعت إخفاء دمعة سقطت من عيني عمّن حولي، لوهلة تبدو المدينة مهجورة، فإذا بي ألمح امرأةً تلبس ثوباً أحمر تسير بين بيوتٍ مهدّمة وتؤشر بيديها لطفلٍ يعدو أمامها يلبس الأخضر والأبيض. ذاكرتي ضعيفة جداً حين يتعلق الأمر بتذكر ما يرتديه الناس، لكن هذه المرأة وهذا الطفل هما أول سوريّين أراهما بعيني في أرضٍ سورية، كم بدا ظهورهما غريباً ومفاجئاً وسط هذا الخراب والدمار الذي يبدو خالياً من الحياة! سَتعلَقُ تفاصيل هذا المشهد في ذاكرتي لسنوات... ربما الى الأبد.
نقف - أنا وعائلتي- على منطقة مرتفعة من تل العرام فنقترب أكثر من سوريا، كنّا العرب الوحيدين بين "إسرائيليين" كُثر متدينين يملؤون المكان، دويّ الانفجارات المتكرر الآتي من الجهة السورية بدا مثل خلفية موسيقية في فيلم تراجيدي طويل، صوت الانفجارات يضربنا نحنُ في القلب مباشرةً، أمّا "الإسرائيليون"، فيرسم صوت الانفجارات ابتسامات شماتة على وجوههم ويغمرهم بارتياح واضح. ننظر إليهم وينظرون إلينا، تلتقي عيوننا مع عيونهم في مواجهة صامتة. وجدتُني في هذه اللحظة أتذكّر غباء الكثيرين من العرب في موقفهم من سوريا، والذين لأسبابٍ عدة منها الجهل ومنها الحقد الشخصي عجزوا عن أن يفرّقوا بين الوطن وبين المسؤولين عنه.
أشعر بالضيق والوجع من فرحهم وابتساماتهم عند كلّ سماعٍ لدويّ انفجار، أعرف جيداً ما يدور في رؤوسهم، يفكرون بأن الأمور تسير لصالح بقائهم هنا، أفكر مثلهم لبعض الوقت، لكن سرعان ما تقفز إلى ذاكرتي حقيقة الحقائق، نحن -الفلسطينيين أو السوريين لا فرق- موجودون هنا منذ عصور ما قبل التاريخ، هذا ما تؤكده الدلائل الأثرية التي قام الإسرائيليون بإخفائها أو سرقتها ونقلها، أما هم فعابرون في كلام عابر تماماً كما قال محمود درويش.