لم يقنع تبني «داعش» عملية القدس أحداً في إسرائيل وخارجها، سوى أنصار «داعش» أنفسهم. مع ذلك، يرون في تل أبيب، أن مصلحتهم تكمن في تحمل «داعش» مسؤولية العمليات. ولو أمكنهم أن يلصقوا بالتنظيم كل العمليات التي تم وسيتم تنفيذها، فلن يترددوا في ذلك. في هذه الحالة، يصبح بوسع إسرائيل تقديم عمليات المقاومة التي ينفذها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، على أنها جزء من الحملة الإرهابية التي يشنها هذا التنظيم المتطرف في العالم.
ويضفي هذا الأمر، أيضاً، قدراً من المشروعية على أي إجراءات إسرائيلية مضادة بحق الشعب الفلسطيني، لكونها تندرج ضمن الحملة الدولية التي يتعرض لها التنظيم. وهو ما حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الترويج له، خلال عملية الدهس التي تعرض لها عدد من جنود العدو وضباطه، مطلع السنة الجارية، عندما بادر، بمعية وزير الأمن أفيغدور ليبرمان، إلى ربط العملية بتنظيم «داعش»، وبالعمليات التي نفذت في أوروبا على يد «الإرهاب الإسلامي»، مضيفاً: «أعتقد أن هناك سلسلة من الهجمات، قد تكون هناك علاقة في ما بينها، وقعت في فرنسا وبرلين، والآن في القدس... ونحن سنحارب هذه الآفة وسنتغلب عليها».
برغم ما تقدم، لم يستطيعوا في إسرائيل الترويج طويلاً لهذا الادعاء، بل إن الجيش نفسه شكك بصدقية هذا التبني، وتعزز هذا التقدير بعد الاطلاع على هوية المنفذين، إذ سيكون من السهل تحديد خلفياتهم الكفرية والسياسية. وأيضاً، لكونهم في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يعرفون أن هذا التنظيم لا يرى في مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين أولوية تتقدم على ما يقوم به من مجازر ضد شعوب المنطقة. من هنا، لم يكن صدفة أن هذا التنظيم لم ينفذ حتى الآن أي عملية في الداخل الإسرائيلي.
على خط مواز، يتوقع أن تصيب عمليات الشعب الفلسطيني النظام السعودي، أكثر من أي وقت مضى، بالإحباط والغضب لكونها تشكل رداً مباشراً على محاولات التقرب المتسارعة من الكيان الإسرائيلي، ولكونها تنطوي على رد عملي إزاء «الصفقة الكبرى» التي تعمل عليها إدارة ترامب، وتهدف إلى الانتقال بالعلاقات الإسرائيلية ــ السعودية، إلى العلن، ضمن صيغة تسوية إقليمية على حساب الشعب الفلسطيني. ولا يبعد أن نشهد لاحقاً، على خلفية هذا المفهوم، محاولات بعض الإعلام العربي التطبيعي تطويق عمليات الشعب الفلسطيني عبر اتهام المنفذين بالانتماء لهذا التنظيم الإرهابي والتكفيري، كجزء من مساعي إخماد صوت الشعب الفلسطيني ومقاومته التي ترفض المساومة على حقه بوطنه. ولعل نقطة الانطلاق لهذا الترويج ستكون بموازاة خطوات تطبيعية علنية لاحقة يتم العمل عليها من قبل الإدارة الأميركية.
ويمكن التقدير بأن إدراك الشعب الفلسطيني لخطورة ربط عمليات المقاومة بالإرهاب التكفيري، ولكونه يندرج ضمن مخططات استهداف القضية الفلسطينية، بادرت حركة «حماس»، في خطوة لافتة، إلى النفي بأن يكون تنظيم «داعش» وراء هذه العملية، وأن المنفذين ينتمون الى حركة «حماس» و«الجبهة الشعبية».
في المقابل، لم ينبع تبني «داعش» لهذه العملية البطولية من فراغ، بل هو محاولة لركب موجة نضال الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تتجه فيه سيطرته في سوريا والعراق إلى الزوال. وهو يحاول أن يسجل في هذا السياق ولو نقاطاً وهمية في سجله الدامي، وأن يقدم نفسه على أنه جزء من القوى التي تواجه إسرائيل.
في كل الأحوال، يفاجئ الشعب الفلسطيني العدوّ الإسرائيلي، ويؤكد إخفاق أجهزته الاستخبارية والعسكرية في إثبات فعالية الإجراءات الأمنية لحماية العمق الإسرائيلي، بما فيها تلك التي تنطوي على خصوصية ورمزية في الوعي والوجدان الصهيوني، ويسقط مزاعم الاحتلال في نجاحه في قمع الانتفاضة وإخمادها، أو حتى محاولة النظام التطبيعي العربي تشويه حقيقة موقف الشعب الفلسطيني.
ومثل العديد من العمليات السابقة، لم تتوفر معلومات استخبارية لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، تسمح لهم باتخاذ إجراءات وقائية واستباقية. وهي سمة كل العمليات التي تتسم بطابع شعبي، ولا يتعارض ذلك، مع كون أن هؤلاء المنفذين وغيرهم يتبنى كل منهم ولاءات فكرية وسياسية، وربما تنظيمية أيضاً، محدَّدة. وأتى تنفيذ عملية القدس، في ظل استعدادات إسرائيلية لافتة، على خلفية تقدير الأجهزة المختصة بأن يبادر الشعب الفلسطيني خلال شهر رمضان الى تنفيذ عمليات ما ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ولا يخفى أن اختيار المنفذين لمدينة القدس ينطوي على أكثر من دلالة، منها ما يرتبط بالفرص الميدانية، وأخرى ما يتصل بمدينة القدس نفسها، الذي يعطي للعمليات بعداً خاصاً، ويجعلها أكثر حضوراً وتأثيراً في الوجدان العام، الفلسطيني والإسرائيلي. بالنسبة إلى الفلسطينيين، تشكل العملية عامل استنهاض، وهو ما تعكسه نسبة العمليات التي يتم تنفيذها في القدس، بالقياس إلى الأماكن الأخرى. فمنذ بداية السنة، قتل سبعة إسرائيليين في العمليات، ستة منهم في القدس.
مع ذلك، ينبغي الإقرار بأن الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل، ومعها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، حالت حتى الآن دون تصاعد العمليات إلى المستويات المؤملة. وهو ما لفتت إليه صحيفة «هآرتس» العبرية بالقول إن «العملية الأخيرة لا تعكس تحولاً في هذه المرحلة، برغم نتائجها القاسية. مستوى التنسيق الأمني بين إسرائيل وأجهزة الأمن الفلسطينية عالٍ»، ونتيجة ذلك، تؤكد الصحيفة أنه «في هذه الأثناء، لا توجد دلائل على اندلاع موجة إرهاب واسعة وجديدة».
بالنسبة إلى الإسرائيليين، تشكل هذه العملية رسالة إضافية بأن احتلالهم للقدس لن يتمتع بالاستقرار والأمن. وسيبقى الشعب الفلسطيني يواصل مقاومته، برغم المحيط العربي المتآمر، والذي يحاول نسج العلاقات السرية والعلنية مع الاحتلال، وإضفاء مشروعية ما على هذا الاحتلال، وتحويله إلى كيان طبيعي على حساب الشعب الفلسطيني.
في هذا السياق، عقد نتنياهو مشاورات أمنية، تقرر في أعقابها فوراً «وقف زيارات الفلسطينيين لإسرائيل» في شهر رمضان، وهو ما يعكس إدراكاً منهم بأن كل فرد فلسطيني هو مشروع مقاوم يمكن أن يبادر في أي لحظة إلى تنفيذ عملية مدوية ضد الاحتلال الإسرائيلي.