لا يكتمل مشهد التأزم الخليجي الحالي من دون النظر إلى التحوّلات في السياسات الإقليمية، وارتباطها بتبدّل التكتيكات السياسية، ضمن الاستراتيجية الواحدة، للولايات المتحدة، بين عهدي باراك أوباما ودونالد ترامب. وأمّا العنوان العريض لهذا التبدّل التكتيكي، فيتمثل في الأداة التي يمكن للمشروع الأميركي استخدامها، لتكريس هيمنته على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجعل تلك المنطقة الحيوية نقطة ارتكاز في الصراع الدولي، الأكثر اتساعاً، بالنظر إلى أهميتها الاستراتيجية، كرقعة وسيطة بين الشمال (روسيا)، والشرق (الهند/ الصين)، وجنوباً (أفريقيا).
ولعلّ مقارنة بسيطة بين الزيارتين الأوليين لباراك أوباما، ودونالد ترامب، إلى الشرق الأوسط، مفيدة لرصد طبيعة المتغيّرات في المقاربة التكتيكية تلك، وربما تشكل رأس خيط لتتبع المسار الذي تسلكه السياسة الأميركية، في مرحلة التحوّلات الكبرى، المرافقة لعودة روسيا إلى لعب دورها التاريخي في الصراع الدولي، وبروز لاعبين أقل قوة، ولكن أكثر تأثيراً، مما سبق، في أوراسيا، التي بات يصطلح على تسميتها «رقعة الشطرنج الكبرى».
ليس ترفاً نظرياً، تعقّب بعض التفاصيل المرافقة للزيارتين الرئاسيتين الأميركيتين، ففي الأولى، اختار باراك أوباما، في أيار 2009، جامعة القاهرة منبراً لتقديم رؤيته تجاه العالم الإسلامي، والتي لم يكن صعباً، في قراءتها، توقع الرهان على قوة عابرة للحدود القُطرية داخل العالمين العربي والإسلامي، تتمثل في «الإخوان المسلمين»، وخصوصاً أن تجربة الإسلام السياسي في تركيا، مع رجب طيب أردوغان، بدت مشجعة، لذلك الرئيس الجديد، الذي بنى نجاحه الانتخابي على أخطاء السياسات المتهوّرة لسلفه جورج دبليو بوش.

تطلعت قطر نحو «الإخوان» بوصفهم حالة شعبية عابرة للحدود الوطنية

لم تتأخر الأحداث كثيراً، لإظهار ذلك التحوّل التكتيكي الأميركي. فمنذ مطلع عام 2011، بدا كأن «الإخوان المسلمين» على بعد «ثورتين» أو أكثر، للاستحواذ على الحكم، في مختلف الدول العربية، بعدما ركبوا على الحراك الثوري، الذي خاضته الشعوب العربية، التي رزحت طوال عقود بين مطرقة الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية.
وبحلول العام الأول، لما بات يُسمّى «الربيع العربي»، باتت خريطة العالم العربي أكثر قرباً من خريطة النفوذ العثماني القديم، بنسخة معدّلة، تضمّنها كتاب جورج فريدمان «المئة عام المقبلة» (2007) ضمن «نبوءاته» بشأن طبيعة الصراعات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين، والتي رجّح أن يكون فيها لتركيا ــ «الإخوانية» في ظل خطة التمكين المنتهجة من قبل رجب طيب أردوغان ــ الدور المحوري، سواء في الهيمنة على العالم العربي، أو في الصراع مع روسيا، في نقاط اشتباك ممتدة من القوقاز إلى البلقان.
كان طبيعياً، في هذه الحالة، أن تشعر السعودية بخطر وجودي، وأن تنبري في المقابل قطر للعب دور يتجاوز حجمها، كإمارة خليجية صغيرة، في عصر التحوّلات الكبرى، لتصبح بذلك وريثة للنفوذ السعودي التقليدي، الذي بلغ ذروته منذ تراجع المدّ الناصري، بشعارات التحرر الوطني، بعد نكسة عام 1967، وبعد فقدان مصر لثقلها المؤثر عربياً، بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد مع العدو الإسرائيلي.
ضمن هذا المشهد المعقّد، راهنت قطر على ما كان يُعتقد حينها حصاناً رابحاً، ولعلّها رصدت باكراً التحوّل الإقليمي، الذي عززته سلسلة الانتصارات الانتخابية المتتالية لرجب طيب أردوغان، والتي انعكست توسعاً في النفوذ التركي على امتداد الشرق الأوسط، في فترة ما قبل «الربيع العربي»، وما بعده، فبدا كأن ثمة توزيعاً أوركسترالياً في التحركات السياسية بين الجانبين، من المشرق العربي حتى مغربه. وكان أن اقتحمت تلك الإمارة الخليجية الصغيرة المشهد الإقليمي، فقدّمت نفسها لاعباً سياسياً في بعض الدول العربية (لبنان، اليمن، فلسطين...)، وشريكاً اقتصادياً في البعض الآخر.
ولعلّ قطر قد أيقنت سريعاً أن «الربيع العربي» يمكن أن يمثّل مشروعاً إقليمياً عنوانه «الأخونة»، تحت العباءة الأميركية – التركية، فكان طبيعياً أن تنبري لأخذ دور يشابه، بشكل أو بآخر، الدور الذي أراده الغرب الاستعماري لإسرائيل، لجهة تحويل كيان صغير الحجم إلى قوة إقليمية مؤثرة، مستفيدة من ثروات ضخمة من عائدات الغاز الطبيعي، تمّ استثمار الكثير منها في عشرات المشاريع الضخمة حول العالم.
ويبدو أن الإمارة الخليجية كانت تدرك جيداً أنها تفتقر إلى عنصر جوهري تستند إليه إسرائيل، في معرض تحوّلها إلى كيان مؤثر على الساحة الدولية، وتحسب له دولة كبرى، كالولايات المتحدة والدول الأوروبية ألف حساب، ويتمثل في الشتات اليهودي، بكل ما يمكن أن يمثله من قوة دعم، على المستويين الاقتصادي والسياسي.
وواقع الحال، أن العنصر الديموغرافي كان يمثل حجر عثرة في طريق تعزيز النفوذ الإقليمي لقطر، فالإمارة الخليجية الصغيرة لا يتجاوز تعداد سكانها المليوني نسمة ــ ربعهم تقريباً من القطريين ــ ما يعني أن سياستها الخارجية لن تكون قادرة على تحقيق أهدافها، طالما أنها تسير بغياب عنصر الشعب.
وانطلاقاً من ذلك، فقد تطلعت نحو «الإخوان المسلمين» بوصفهم حالة شعبية عابرة للحدود الوطنية ــ لا بل إنهم لا يعترفون بالحدود أصلاً وفق أدبياتهم ــ لتعزيز مكانتها بقوة بشرية متمددة، وقوة سياسية لها حضورها في معظم الدول العربية. هذه النقطة بالذات ربما تشكل مفتاحاً لفك الكثير من طلاسم العلاقة الملتبسة بين حكام قطر و«الإخوان المسلمين»، والتي تشكل استثناءً عن مثيلاتها في المحيط الخليجي، متجاوزة الفوارق الهائلة، على المستوى الديني بين الوهابيين ومريدي حسن البنا، وبرغم المخاوف السياسية التي تضمرها معظم الأنظمة الخليجية الحاكمة إزاء الطموحات غير المحدود للجماعة المثيرة للقلق.
وفي الواقع، فإنّ تلك العلاقة الحميمة لم تأتِ من فراغ، وخصوصاً أن جذورها تمتد إلى الحقبة التي سبقت نشوء دولة قطر الحديثة في عام 1971. ومعروف أن العنصر البشري الخارجي شكل ركيزة أساسية في بناء مؤسسات الدولة القطرية، وقد كان لـ«الإخوان المسلمين» دور مهم في ذلك، فحتى منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم، كانت قطر مجتمعاً في طور النمو، ويفتقر إلى الجهاز البيروقراطي، الذي يشكل البناء التحتي للدولة بمفهومها التقليدي.
ومع بداية الحقبة النفطية لقطر في الستينيات، بدت الحاجة ملحّة للاستعانة بكل الخبرات في مجال بناء مؤسسات الدولة الناشئة، فجرت الاستعانة بعدد لا بأس به من كوادر «الإخوان»، الوافدين من مصر، على أثر الصدام مع الرئيس جمال عبد الناصر، للاستفادة من خبراتهم، ولا سيما على مستوى التعليم، حيث تبوأت شخصيات «إخوانية» مراكز مهمة في الكليات والمدارس، مثل الشيخ يوسف القرضاوي، وحسن المعايرجي، وأحمد العسال، وعبد الحليم أبو شقة... وغيرهم.
ومنذ ذلك الوقت، باتت قطر قبلة «الإخوان» الهاربين من الصدامات مع السلطات المحلية في بلادهم. وبعد الموجة الأولى من النزوح «الإخواني» إلى قطر، كانت الموجة الثانية من سوريا، بعد أحداث حماة في عام 1982، ثم الثالثة من السعودية، في أعقاب التوتر بين «الإخوان» ونظام آل سعود في التسعينيات، وبعدها الرابعة من فلسطين، بعد طرد قادة حركة «حماس» من الأردن (ولاحقاً بعد إقفال مكتب الحركة في دمشق بعد الأزمة في عام 2011)، فيما كانت الموجة الخامسة من مصر على أثر «ثورة 30 يونيو» التي أطاحت حكم الرئيس «الإخواني» محمد مرسي.
خلال موجات النزوح الخمس تلك، رسّخ «الإخوان» علاقتهم بالنظام القطري، ونجحوا في الاندماج في الحياة العامة على كل مستوياتها الدينية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية والسياسية. كما تجنبوا الدخول في صدام مباشر مع حكام الإمارة الخليجية، حتى في أكثر الظروف حساسية، كما حدث في التسعينيات حين انقسم «إخوان» قطر بين تيارين، الأول دعوي ــ تربوي، وآخر سياسي، سرعان ما حلّ نفسه في مطلع الألفية الثالثة، ولا سيما بعد اشتداد الخناق على مثيلاته في باقي دول الخليج.
بذلك، تكرّست خطوط العلاقة بين النظام الحاكم في قطر، ولا سيما في عهد الأمير حمد بن خليفة، وبين «الإخوان المسلمين»، وهي تقوم على الدعم المتبادل في مقابل عدم التدخل في الشؤون الداخلية، أو بمعنى آخر التخلي عن أي طموحات سياسية داخلية آنية أو مستقبلية.
وفي الواقع، فإن الصفقة بدت مربحة للطرفين، فـ«الإخوان» كانوا في أمسّ الحاجة إلى حاضنة إقليمية توفر لهم الغطاء السياسي والدعم المادي، بعدما نبذتهم كل الأنظمة العربية، في حين وجد حكام قطر الفرصة مناسبة لتأمين الظهير السياسي والعنصر البشري الذي يمنحهم إمكانية توسيع نفوذهم الإقليمي.
انطلاقاً من ذلك، صوّبت قطر على حساسية عرقية موروثة من الحقبة العثمانية، ولا تزال تلقي بظلالها على العلاقات التركية ــ العربية حتى اليوم، بما في ذلك ضمن الحالة الإسلامية السنّية، فاقتحمت المشهد الإقليمي المتحوّل، عبر تقديم نفسها راعية لـ«الإخوان» العرب، بما يمكنها من التناغم ــ أو ربما التزاحم إذا ما اقتضت الضرورة ــ مع تركيا بصفتها راعية لــ«الإخوان» الأتراك، وكادت تقترب من تحقيق مشروعها، قبل أن تتلقى أولى الضربات من مصر، حين أسقطت «30 يونيو» الزاوية المصرية من هلال «الأخونة»، وبعدما أتى التدخل العسكري الروسي ليفرض معادلة جديدة في الميدان السوري.
ولعلّ هذا ما يفسر سبب رفض قطر الشروط الخليجية المعلنة، بالتخلي عن الرهان «الإخواني»، إدراكاً منها بأن ذلك سيفقدها عنصراً جوهرياً في سياستها الخارجية، وسينهي بالتالي كل طموحاتها باكتساب النفوذ الإقليمي إلى الأبد... وربما يفسّر أيضاً سبب الارتياح الذي تبدّى سريعاً، مع بدء التحرّك التركي باتجاه فك «العزلة» الخليجية.