تونس | ألا يحق لنا بعد طفرة 2011 التي حدثت لتونس والتونسيين أن نتساءل الآن: أين نحن من الطريق التي بدأها آلاف الشباب الغاضب والصارخ في وجه السلطة بأن تنزاح عن السلطة؟ كيف ترجم الفاعلون في المجتمع المدني شعارات التحرر والعدالة والتقدم والتنوير؟
هل يمكننا ــ بعد 6 سنوات ونيف ــ أن نرى شباباً من أحياء مهمَّشة ومفقرة بصدد الانكباب على مطالعة دستويوفسكي ومشاهدة برشت والاستماع إلى شوبان ورقص الفالس بأناقة الحداثة وما بعدها؟ لعلها الأسئلة التي دفعتنا إلى استطلاع مندفع بالأمل داخل تونس الأخرى.

الحرب على التهميش

«مرحبا... اسمي آية، وأنا ممن كنت أعتقد أن المصير الأفضل لحياتي هو السفر إلى سوريا للجهاد، لكنني غيرت رأيي أنا ورفيقتي هالة بعدما حضرنا حصة الفرنسية في مقر جمعية جيل ضد التهميش... لقد أوضح لي الشباب هنا أن الحياة أفضل من الموت، وأن الحرية هي الأمانة التي قدمها لي الله وأن الإنسان قيمة لا تقدّر بثمن».
قد تكون هذه إحدى الشهادات التي يمكن أن تقدمها آية لكل من يسألها عن نشاط جمعيتها الجديدة «جيل ضد التهميش»، وهي واحدة من بين عشرات الناشطات والناشطين في هذه الجمعية التي أحيت الأمل في التغيير الشعبي والميداني، بعيداً عن تنظير السياسيين والنّخب والأكاديميين في الإعلام والصالونات الفخمة والمقاهي الفندقية البعيدة.
تقوم جمعية «جيل ضد التهميش» بالعمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة في الأحياء الشعبية، خاصة في الحي الذي فيه مقرها وهو «حي الكبارية»، ويقول أحمد ساسي، وهو أحد مؤسسيها، إن نشاطهم تطوعي وقد جاء في سياق غمرة التحركات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في تونس أثناء عام 2011 وبعده. ويضيف: «إننا هنا من أجل سكان حيِّنا المهمَّش وشبابه المظلوم في كل حقب وتاريخ تونس منذ الاستقلال، الوضع هنا سيّئ والكبارية حيّ عرف عنه ارتفاع نسبة الجريمة فيه وتراجع نسبة التمدرس وظهور موجة من التطرف بعد الثورة، ونحن هنا من أجل الإسهام بما نملكه من جهد من أجل القضاء على هذه الظواهر».
يُعَدّ حيّ الكبارية الذي يبعد نحو خمسة كيلومترات عن العاصمة تونس أحد أهم الخزانات السكانية المهمشة في تونس، ويبلغ عدد سكانه تقريباً (في منطقة ابن سيناء) نحو 60 ألف نسمة، يعيش جلهم ضمن مستوى معيشي أقل من المتوسط، ويصل أحياناً في مناطق مثل «حي بوحجر» إلى الفقر المدقع، حيث الأبنية العشوائية ومكبات الفضلات... حيث تعشّش الجريمة ويتعاظم استهلاك المخدرات.
يقول أحمد العياري، وهو أحد نشطاء «جيل ضد التهميش»، إنه يركز دائماً على استقطاب أصدقائه من المعهد الذي يدرس فيه وسط حيّه كي يشاركهم متعة العزف على الغيتار والاستماع إلى أنماط مختلفة من الموسيقى ومشاهدة الأفلام في القاعة المخصصة للسينما في مقر الجمعية. ويؤكد العياري أنه لاحظ تغيراً كبيراً في سلوك أبناء حيّه بعد فترة من العمل والنشاط مع أصدقائه، قائلاً: «لقد أصبحنا نتشارك الاهتمامات ذاتها، حتى أن بعض الأصدقاء أصبحوا يشاهدون أفلاماً بنحو منفصل، ثم يناقشونها مع المجموعة في الجمعية، وقد أضاف ذلك أفكاراً جديدة لديهم واكتشافاً آخر للفن، وهذا شيء مفرح فعلاً».

الجامعة الشعبية

تُعدُّ «جيل ضد التهميش» واحداً من المشاريع المدنية التطوعية التي قام بها شباب مثقف أراد أن يقترب أكثر من الإنسان التونسي المهمش والمنسيّ بين أزقة نسيت الدولة التونسية أنها تحت سيادتها ومسؤوليتها. إذ توجد أيضاً «الجامعة الشعبية»... الجامعة التي فتحت أبوابها للعموم من مختلف الأعمار والشرائح مجاناً ودون أي مقابل، وكي يكون لذلك معنىً، فتحت هذه الجامعة أبوابها في أحد الأحياء الفقيرة والمهمشة أيضاً: «سيدي حسين السيجومي».
تقول الوثائق التأسيسية لجامعة «محمد علي الحامي الشعبية» إنّ الجامعة بعثت في سيدي حسين نظراً إلى النسبة الكبيرة من الانقطاع عن الدراسة في هذا الحيّ وغيره من الأحياء القريبة المجاورة التي تحتضن نسبة مهمة من السكان. ويشير مؤسسو الجامعة إلى أنّ المحتويات العلمية التي تقدم للطلبة هي محتوى تفاعلي يقوم على ديناميكية جديدة للتعليم، وهي المشاركة في المضمون العلمي للحصة الدراسية، مع توفير قاعات للمسرح والموسيقى والرقص والمطالعة، خاصة المطالعة التي بعثت الجامعة الشعبية من أجلها مكتبة مهمة أثثت بتبرعات المساهمين ومفتوحة للجميع كي يطالعوا الكتب، وغالباً ما تتلو حصص المطالعة ندوات للنقاش والإثراء والنقد.
ويقول نصر الدين السهيلي، أحد مؤسسي النواة الأولى التي بعثت الجامعة (وهو فنان مسرحي ومخرج سينمائي)، إن الجامعة مفتوحة أمام الناس جميعاً دون استثناء ممن يبحثون عن العلم والمعرفة، علماً أن الجامعة بعثت بالخصوص إلى الناس غير القادرين على مواصلة الدراسة في الجامعة، وكل من يريد المعرفة في مفهومها الواسع ويبحث عنها. ويضيف أن «مشروع الجامعة لا ينتمي إلى أي حزب أو تيار أو منظومة، بل هي جامعة بعثت وسط حيّ شعبي لتوصل الثقافة والنور والعقلانية إلى أعماق تونس المنسية لمكافحة الفكر المتطرف والظلامي ولتطوير عقلية المواطنة في الأحياء الفقيرة».
وتقدم الجامعة الشعبية دروساً في القانون مع الأستاذ المعروف قيس السعيد، ودروساً في الفلسفة والمسرح والموسيقى والأدب والحضارة من مختلف اللغات الحية، وكذلك الاقتصاد السياسي والرياضيات، كذلك تفتح أبوابها لكل التلاميذ والطلبة في أوقات المراجعات استعداداً للامتحانات.
توجد جمعيات وقوى مدنية أخرى متطوعة تعمل في أماكن أخرى مهمشة في تونس كي تقاوم التطرف والجهل والانقطاع المبكر عن الدراسة، وتُسهم في تطوير فكر المواطنة وتجذيره في الشرائح الاجتماعية التي لم ينصفها تاريخ التنمية المبتور في تونس، وقد ظلمتها الجغرافيا أيضاً، لأن تلك الشرائح غالباً ما تكون في خاصرة المناطق الثرية التي تتركز فيها الثروات والأحياء الفخمة والمعبدة والمكاتب الأنيقة. وليس المثالان المقدمان يتيمين في هذا المجال، بل إن آلاف الشباب العامل بصمت في جهات تونس ومناطقها القصية يحمل في صدره رسالة نبيلة مفادها أن ما بدأ سنة 2011 يجب أن يستكمل إلى آخر الطريق... طريق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.