الحرب مع الإرهاب لا تُحسم بضربة قاضية وقد تستهلك معاناتها فترات طويلة. لا يوجد أمن مطلق أو مجتمع بلا ثغرات. التحدي الحقيقي أمام مصر الآن هو خفض كلفة هذا النوع من الحروب بما يساعد على تحمل أي ضربات مباغتة دون اهتزاز في تماسك المجتمع والنيل من ثقته في نفسه. وهذه مسألة سياسية قبل أن تكون أمنية.
أهم ما يجب الاعتراف به أنه لا توجد أي استراتيجية متماسكة ومقنعة قادرة وكفوءة على حسم الحرب بأقل كلفة ممكنة.
الأمن يتحمل قسطه لكنه ليس وحده، وإلا فإنه يحمل فوق طاقته. في مصر، كما أي دولة في العالم، لا أمن بلا سياسة، كما أن الأمن ليس بديلاً من السياسة.
وأخطر ما يجب الاعتراف به أن الأخطاء السياسية تتكاثر في المشهد العام كأنها ألغام مرشحة للانفجار عند المنحنيات الخطرة.
أول منحنى خطر، تواصل استهداف الأقباط المصريين في مدى زمني متقارب كعمل منهجي مقصود. الضرب على البطن الرخوة هدفه إثبات عجز الدولة عن حماية مواطنيها وجرّ المجتمع إلى فتن طائفية مدمرة تأخذ منه سلامته الداخلية وقدرته على مواجهة أي أزمات أخرى.
جرى استهداف الأقباط في سيناء بالترويع حتى أصبح تهجيرهم أمراً مقبولاً. وجرى استهداف كنيسة البطرسية في قلب القاهرة وبعدها كنيستي طنطا والاسكندرية حتى يكون الذعر من ارتياد دور العبادة أمراً معتاداً. وجرى استهداف حافلة للأقباط في المنيا، كانت متوجهة لأحد الأديرة، حتى يكون الموت حاضراً عند كل ناصية.
بأي مدى منظور من غير المستبعد ارتكاب جرائم إرهابية أخرى ضد الأقباط بصورة جديدة، ربما أكثر بشاعة. لم يكن حادث المنيا «انتحارياً» ولا استخدمت فيه طاقة تفجير كبيرة مثل العمليات التي سبقته.
اعتمد أساساً على المعلومات والمتابعة قبل الحركة والتنفيذ ومغادرة مسرح الجريمة، وهذا مؤشر على التمركز بالقرب من المكان.
ثم أنه تعمد أن يترك بعض الصبية على قيد الحياة حتى يحكوا مشاهد الفزع التي انتابت الضحايا وقدر العنف الذي ارتكبه المتشددون.
وقد كانت للعمليات الجوية المصرية على معسكرات لجماعات متشددة داخل ليبيا قيمة سياسية ومعنوية، لكنها لا تحول دون المساءلة الجدية عن حجم التمركز الإرهابي في الداخل وقدرته على توجيه ضربات موجعة، وأين مواطن الخلل في الأمن والسياسة؟
أرجو ألا ننسى أن ذلك الحادث الإرهابي جرى في ظلّ حالة «الطوارئ» وتغليظ القوانين بصورة غير مسبوقة. لا «الطوارئ» حالت دون نقلته النوعية الخطيرة ولا العقوبات المغلظة ردعت جماعات العنف.
ما نحتاج إليه بالضبط رفع مستوى أجهزة المعلومات حتى يمكن إجهاض الجريمة الإرهابية قبل وصول مرتكبيها إلى أهدافهم. إذا ما وصل الانتحاري إلى عين المكان فكل شيء انتهى.
أسوأ النتائج المتوقعة من استهداف الأقباط الانكفاء من جديد بعيداً عن العمل السياسي الوطني، الذي تقدموا إلى ميادينه كمواطنين في غمار ثورة «يناير».
عندما تتعطل حيوية الدمج السياسي يخسر المجتمع قدرته على التوحد الطوعي في الحرب على الإرهاب.
وثاني منحنى خطر، الضيق البالغ بأي قدر من الحريات والتنوع في المجال العام. عندما تضيق الدول تضعف مناعتها على نحو منذر.
قضية السياسة الأولى صناعة التوافقات الوطنية. وهذه غائبة بفداحة. الحوار العام شبه متوقف والمجتمع المغلق مشروع انفجار محتمل. التماسك قضية اقتناع لا فرض، ثقة لا خوف، حوار لا إقصاء.
«دولة القانون» مدخل ضروري لكسب الحرب على الإرهاب و«جمهورية الخوف» تصب في طاحونته الدموية، فالخائفون لا يقدرون على أيّ مواجهة قادرة على الحسم.
العدل الاجتماعي مدخل ضرورى آخر. التمييز الاجتماعي أزمة مواطنة، كما التمييز الديني. الضيق بالعمل الأهلي التطوعي ــ كما في قانون الجمعيات الأهلية الذي جرى إقراره على نحو مفاجئ ــ يفضي إلى تفريغ حيوية المجتمع ويوفر مزيد من الحضانات الاجتماعية للعنف والإرهاب. نحن نتحدث عن أكثر من ٤٥ ألف جمعية أهلية أغلبها تساعد في توفير خدمات صحية وتعليمية لمناطق تعجز الدولة عن الوصول إليها.

من يملأ الفراغ؟

إنها الجماعات التي توصف بالإرهاب. هكذا، فإنه باسم ضمانات الأمن يمكن أن يجد الإرهاب بيئاته الحاضنة. لا يمكن بأي استراتيجية جادة للحرب على الإرهاب كسبها دون أن يكون هناك تماسك اجتماعي يطمئن إلى غده ويستشعر عدالة في توزيع الأعباء لا أن تتحملها ــ كالعادة ــ الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقراً.
الأزمة الاجتماعية المتفاقمة كحقيبة متفجرات يمكن أن تنفجر بأي وقت. صوت الأنين الاجتماعي يغلب أي صوت آخر تحت وطأة ارتفاعات الأسعار. ذلك الأنين المتصاعد يسحب من رصيد التماسك الضروري للحرب مع الإرهاب. وهذه مسألة، الاستهانة بها مكلفة.
وثالث منحنى خطر، ما يتبدى الآن من توجه لإنهاء تسليم جزيرتي تيران وصنافير قبل بداية شهر تموز/يوليو وإنزال العلم المصري من فوقهما.
تجري الآن تحركات واجتماعات غير رسمية وغير معلنة مع نواب بالبرلمان على مستويات عدة لتمرير اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية السعودية رغم الأحكام القضائية الباتة من المحكمة الإدارية العليا ببطلان توقيع الاتفاقية ومصرية الجزيرتين.
لن تكون هناك مشكلة كبيرة في تمرير الاتفاقية داخل البرلمان، غير أن كل المشاكل سوف تبدأ بعد ذلك التمرير. البرلمان سوف يفقد اعتباره ومستقبل الدولة سوف يوضع بين قوسين.
هكذا يجد البلد نفسه أمام مجازفة كبرى تقوّض الشرعية وتضرب أمنه القومي وتهز بعمق أي ثقة في نظامه القانوني، أو أي اعتبار للدستور. وهذه ليست أموراً عارضة يمكن تجاوزها في يوم أو اثنين، عقد أو اثنين. كما أنها تسحب من رصيد أي تماسك ممكن في الحرب مع الإرهاب.
ذلك يستدعي الاستماع إلى صوت العقل وأن توقف أي مجازفة من هذا النوع حتى لا ندخل في غيبوبة طويلة لا يعرف أحد المدى الذي سوف تصل إليه فداحتها.
وإذا وضعنا في الاعتبار التزامن بين التخلي المحتمل عن الجزيرتين ورفع الدعم عن الوقود والكهرباء فإن المجازفة تفضي إلى اضطرابات لا يحتملها بلد منهك وصدامات محتملة تدفع البلد إلى منزلقات بلا نهاية.
كل عطب يمكن إصلاحه وكل خلل قابل للتصحيح. هذه إحدى حقائق العمل السياسي. غير أن هناك تصرفات تستعصي على أي إصلاح أو تصحيح مثل التخلي عن الجزيرتين التي تؤمن أغلبية المواطنين أنهما مصريتان. بالحساب القانوني هذا خطأ فادح. بالحساب السياسي فإنها خسارة مسبقة. وبالحساب الأمني فإنها غير مأمونة العواقب. وبالحساب الاجتماعي فإن شيئاً جوهرياً سوف يكسر، وحسابه عسير مهما طال الزمن. تلك المجازفة المحتملة توفر لجماعات العنف والإرهاب غطاء سياسياً وأخلاقياً لا تستحقه على أي نحو، أو بأي قدر. حتى الإرهابيون يحتاجون إلى مثل تلك الغطاءات وذلك يفتح أبواب جهنم على البلد كله.
أرجو التنبه للكمائن الماثلة عند المنحنيات الخطرة قبل فوات الأوان.
*كاتب وصحافي مصري