القاهرة ــ الأخباربدت المواجهة المفتوحة بين مصر والإرهاب، يوم أمس، على مفترق طرق؛ فالهجوم الإرهابي الذي استهدف الأقباط في محافظة المنيا، في الصعيد، والذي أعاد إلى الأذهان، في أسلوبه، العمليات الإرهابية التي هزّت البلاد في التسعينيات، دفعت، على ما يبدو، نحو مقاربة مضادة مختلفة، أعلن عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليل أمس، وعنوانها العريض: «لن نتردد في ضرب الإرهابيين داخل مصر… وخارجها».

هذا التحوّل، سواء في أسلوب العمل الإرهابي، أو في الخطوات العابرة لحدود مصر، والتي تعهد بها السيسي «لحماية الأمن القومي المصري»، لا يمكن، بطبيعة الحال، فصلها عن التطوّرات المتسارعة على الساحة الإقليمية، ولا سيما بعد قمة الرياض، وما شهده اليومان الماضيان من توتر على خط الرياض ــ الدوحة، والذي لا يبدو أن تداعياته ستقتصر على حجب مواقع الكترونية، أو العبارات النارية التي نزعت، منذ صباح الأربعاء، عن الصحف الخليجية رداءها الباهت.
وبعد أقل من 50 يوماً على تفجيري كنيستي طنطا والاسكندرية، نفذت القوى التكفيرية، أمس، هجوماً إرهابياً جديداً استهدف حافلات أقباط كانت في طريقها إلى زيارة دير الأنبا صموئيل في المنيا، في منطقة صحراوية تبعد عن الطريق السريع نحو 30 كيلومتراً في عمق الصحراء، في حادث تم تنفيذه عبر مجموعة ملثمين كانوا يرتدون ملابس تشبه ملابس الجيش، وقاموا بإيقاف الحافلات التي كانت متجهة إلى الدير، وسارعوا إلى إطلاق النار على الموجودين بداخلها، بعد سرقة الذهب والأموال الموجودة في حوزة السيدات.
وإذ لاذ الإرهابيون بالفرار في الدروب الصحراوية، كان لافتاً أن عملية تعقّبهم جواً لم تبدأ إلا بعد أكثر من ثلاث ساعات، فيما لم تصل قوة الشرطة إلى مكان الحادث إلا بعد أكثر من 30 دقيقة، بالرغم من أن أقرب نقطة إلى موقع الحادث لا تبعد سوى بضعة كيلومترات، ما قد يجدد الانتقادات إزاء المقاربة التي تنتهجها وزارة الداخلية تجاه العمليات الإرهابية المماثلة، على غرار ما حدث في التفجير الماضي، الذي سعى وزير الداخلية إلى احتوائه عبر إقالة مدير أمن طنطا.
واللافت للانتباه، في سياق الحديث عن المقاربة الأمنية لوزارة الداخلية، أن الهجوم الدامي، أمس، جاء بعد أقل من 48 ساعة على إطلاق السفارة الأميركية في القاهرة تحذيراً لرعاياها من هجوم إرهابي محتمل، طالب الأميركيين الموجودين في مصر بضرورة الحذر من الوجود في الأماكن المزدحمة. ونُشر التحذير عبر الموقع الرسمي للسفارة، من دون أن يصدر أي تعليق من المسؤولين الأمنيين حوله.
في غضون ذلك، فإنّ تعليمات واضحة صدرت للشاشات المصرية أمس بالتوقف عن بث مشاهد تظهر احتقان الأهالي، على غرار ما حدث خلال تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة (كانون الأول 2016)، وكنيسة مار جرجس في طنطا، والكاتدرائية المرقسية في الإسكندرية (نيسان 2017).
غضب المصريين، الأقباط بصورة خاصة، واتهام الدولة بالتقصير الأمني الذي وجّهه عشرات الأقباط يوم أمس، لم يشاهدهما المصريون على الشاشات المحلية، ولكن على الشاشات العربية فحسب، إذ إن المحطات المصرية اكتفت بتغطية سطحية لا تليق بخطورة الحادث وتداعياته.
ولعلّ المتابع لما يحدث للمصريين الأقباط، الذين تمثّل فئة رئيسية بينهم كتلة مؤيدة للرئيس عبد الفتاح السيسي، يرصد استهدافهم بشكل متزايد خلال الشهور الستة الماضية؛ فبعد تفجير استهدف الكنيسة البطرسية، وتهجيرهم من العريش وتفجيري طنطا والإسكندرية، قُتل أكثر من مئة قبطي في حوادث إرهابية. ولم تفلح الإجراءات التي اتخذتها الدولة، في أعقاب كل حادثة، في وقف عمليات استهداف الأقباط. وصحيح أن قوات الأمن أحبطت عمليات عدة على فترات، من بينها محاولتا اغتيال الأنبا كرليس أسقف المنيا، إلا أن المحافظة التي شهدت الحادث أمس تُعدُّ أكثر بؤرة احتقان طائفي بين المسلمين والأقباط، ويشكل الأقباط نحو نصف سكانها. وشهدت هذه المحافظة أكثر من حادثة عنف طائفي منذ أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك حتى الآن، وتعرضت غالبية كنائسها للتدمير على أيدي إسلاميين متشددين، خلال فضّ اعتصامَي رابعة والنهضة لأنصار جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات أخرى في 2013.
وانتهت غالبية قضايا الفتن الطائفية في المنيا بجلسات صلح ودية أجبر فيها الأقباط على التنازل أو أغلقت قضائياً لعدم كفاية الأدلة، كما حدث في واقعة تعرية سيدة كوم اللافي العام الماضي، والتي تسبّب تغيير أقوال الشهود فيها في شيوع الجريمة وحفظ القضية في النيابة.
لكن من جهتها، طالبت الكنيسة القبطية في بيان نُشر على موقع «فايسبوك»، أمس، بـ«اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفادي خطر هذه الحوادث التي تشوّه صورة مصر وتتسبب في آلام العديد من المصريين»، مشيرة إلى مواساتها «لكل الأسر المجروحة وتألمها مع كل الوطن لهذا العنف والشر الذي يستهدف قلب مصر ووحدتنا الوطنية التي هي أثمن ما نملكه ونحفظه ونحميه».
وعلى المنوال نفسه تقريباً، ذهب «الأزهر» في بيان صادر عن الشيخ أحمد الطيب الذي أدان «بشدة الهجوم الإرهابي الخسيس»، معتبراً أنّ «هذا العمل الإرهابي الجبان يخالف تعاليم كافة الأديان السماوية والتقاليد والأعراف الإنسانية التي تجرم قتل الأبرياء». ودعا «الأزهر» إلى «الوقوف صفاً واحداً في مواجهة هذا الإرهاب الأسود، (مجدداً دعمه) لكافة الإجراءات التي تتخذها أجهزة الدولة في مواجهة جماعات التطرف والإرهاب للقضاء على هذا الإرهاب الغاشم واقتلاعه من جذوره».
وبينما تحدثت مصادر عن أنّ «هناك تياراً في الكنيسة طالب ببيان ذي لهجة أقوى وأشد، وأنّ هناك حالة تذمر إزاء بيان الكنيسة»، فقد تجمّع في مدينة مغاغة الواقعة في شمال محافظة المنيا نحو خمسين شخصاً، مساء أمس، أمام مطرانية الأقباط الارثوذكس، حيث أقيمت صلاة الجنازة على اثنين من الضحايا قبل تشييعهما، وفق ما نقل شهود. وهتف المشاركون في التشييع «ارحل يا وزير الداخلية» و«يسقط يسقط وزير الداخلية».
من جهة أخرى، لا يبدو أن تداعيات الهجوم الإرهابي ستقتصر، كسابقاته، على الجلبة الداخلية في مصر؛ فما صدر في ختام الاجتماع الأمني ــ العسكري الذي عقده السيسي، مضافاً إليه المناخ الإقليمي المضطرب، والذي يشهد إعادة خلط للأوراق الإقليمية، لا سيما بعد قمة الرياض، قد يدفع على ما يبدو إلى تجاوز الحدود المصرية في ضرب الإرهاب، وهو ما تبدّى ليلاً، حين تم الإعلان عن ست ضربات جوية استهدفت مواقع لمتشددين في ليبيا. وجاء الإعلان عن هذه الغارات الست مباشرة بعد كلمة وجّهها السيسي إلى المصريين، وتضمّنت رسائل شديدة اللهجة تجاه بعض القوى الخارجية.
وقال السيسي إن «الهدف مما يجري هو إسقاط الدولة المصرية»، مضيفاً أن استراتيجية «داعش» تتمثل في «كسر تماسك المصريين ودولتهم» عبر إحداث فتنة مسيحية ــ إسلامية، والتشكيك في قدرة الدولة المصرية على حماية الأقباط. وأشار في سياق كلمته إلى إن مهمة الإرهابيين في سوريا «انتهت» بعدما «دمّروها»، معيداً التذكير بتحذيراته السابقة، لا سيما بعد انتهاء معركة حلب، من أن هؤلاء الإرهابيين «سيأتون إلى مصر، ويتحركون باتجاه سيناء والمنطقة الغربية المحاذية لليبيا».
وأشار السيسي إلى المخاطر المحدقة بالأمن القومي المصري من البوابة الليبية، كاشفاً عن تدمير أكثر من ألف سيارة دفع رباعي، يستقلها إرهابيون، عند الحدود الغربية، من بينها «300 سيارة» خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

صدرت تعليمات للشاشات
المصرية بالتوقف عن بث
مشاهد تظهر الاحتقان

وتابع السيسي قائلاً إن «المعسكرات التي خرج منها الإرهابيون، ويتم التدريب فيها، تم توجيه ضربة لها حالياً»، مشدداً على أنّ القاهرة «لن تتردد إطلاقاً في توجيه ضربات ضد معسكرات الإرهاب في أي مكان، سواء داخل مصر وخارجها… وأرجو أن تكون الرسالة واضحة للجميع»، وكرر هذه الجملة مرتين.
وخاطب الرئيس المصري المجتمع الدولي بالقول «تحدثنا في استراتيجية لمحاربة الإرهاب في مؤتمر القمة الإسلامي العربي الأميركي (اجتماع الرياض)، وإذا تحركنا من خلالها، فسنهزم الإرهاب»، مشدداً على أن «الدول التي تدعم الإرهاب وتقدم له السلاح والتدريب يجب أن تعاقب بلا مجاملة ولا مصالحة معها».
وبالرغم من أن السيسي لم يسمّ أياً من تلك الدول الداعمة للإرهاب، إلا أن الاتهام المباشر في هذا السياق يبدو موجهاً إلى قطر التي عاد الحديث عن دعمها للمجموعات الإرهابية مادة دسمة في الإعلام المصري، وكذلك الحال بالنسبة إلى تركيا التي تؤوي قيادات إخوانية، وربما السودان، بعد التوتر الأخير في العلاقات بين الخرطوم والقاهرة، رغم التقارب السوداني المستجد مع نظام آل سعود، الحليف المشترك لنظام عمر حسن البشير والنظام المصري.
وإذا كانت الضربات الجوية الأولى، رداً على هجوم أمس، قد أتت في ليبيا، وهي ضربات يُعتقد أنها أوّلية، بحسب ما يتبدّى من كلام السيسي، فإن استحضار الرئيس المصري سوريا، وحلب بالذات، في معرض حديثه عن المناطق التي خرج منها الإرهابيون باتجاه مصر، ربما يؤشر الى احتمال امتداد الضربات المصرية الانتقامية، أو الاستباقية، إلى عمل عسكري ما ــ ذي طابع أمني في الغالب ــ ضد مواقع لجماعات مسلحة في سوريا، خصوصاً بعدما تأكد أن هجومي طنطا والاسكندرية نفذهما انتحاريان شاركا في القتال هناك. وثمة معلومات، بحسب مصادر مطّلعة، عن وجود معسكرَي تدريب على الأقل «يحظيان بدعم وتمويل قطري، في محافظة إدلب، وهما مخصّصان لتصدير إرهابيين إلى مصر»، وهي معطيات ليست بجديدة، ولكن السلطات المصرية تتعامل معها بحساسية شديدة، بالنظر إلى تعقيدات الأزمة السورية. ولكن ما حدث أمس ربما يمهّد لاندفاعة مصرية جديدة في مجال الإرهاب تتجاوز حدود مصر نفسها.
على صعيد آخر، ووفق مصدر أمني تحدث إلى «الأخبار»، فإن السيسي كان قد طلب تقريراً موسّعاً من وزير الداخلية ليُعرض خلال الاجتماع الأمني المصغر، يتضمن تفاصيل الحادث وكيفية ارتكابه ونوعية الأسلحة المستخدمة فيه، وهو التقرير الذي تم إعداده بالفعل وعرضه الوزير خلال الاجتماع. وكُلّف الوزير «بتشكيل عشر فرق أمنية لملاحقة المتورطين وتمشيط المنطقة الجبلية في محاولة للوصول إلى الجناة». ويحاول المصدر تبرير ما وقع أمس، بالقول إنّه «في العادة لا تقوم الداخلية بتأمين الرحلات الأهلية التي تنظم إلى الدير بشكل فردي، ولكن التأمين يقتصر على الرحلات السياحية التي يتم الإبلاغ بها مسبقاً»، مشيراً إلى أن «ارتفاع عدد الشهداء يرجع إلى تصادف مرور أكثر من حافلة في وقت الهجوم نفسه، منها حافلة العمال الذين لم ينجُ منهم أحد بعد إطلاق النار بشكل مكثف عليهم».




طهران: الهجوم أتى بعد زيارة ترامب

أدانت معظم الدول الإقليمية، أمس، الهجوم الإرهابي الذي وقع في المنيا، بما فيها قطر وتركيا اللتان تتخذان موقفاً سلبياً من نظام القاهرة. ورغم تصاعد حدة الهجمات الإرهابية في مصر في العام الأخير، فإنّ الدوحة وأنقرة لم تصدر عنهما مواقف إدانة إلا في المدة التي بدأت فيها تلك الأعمال الإجرامية تنتقل إلى وادي النيل، وتستهدف مباشرة المكوّن القبطي.
وبينما وقع الهجوم في ظل ظرف إقليمي شديد التوتر، فإنّ الموقف الإيراني بدا لافتاً بدوره، إذ رأت وزارة الخارجية أن «اعتداءات كتفجير مانشستر، واعتداءات داعش وأبو سياف في الفيليبين، والاعتداء في إندونيسيا، وإطلاق النار الدموي في مصر (أمس)، حدثت جميعها في الأيام التي تلت زيارة الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) الداعمة للسعودية». وقالت الخارجية الإيرانية أنّ «التحركات الاستعراضية الأخيرة في الرياض التي تمت تحت عنوان وهمي هو محاربة الارهاب والتطرف، عملياً لم يكن لديها معنى ونتيجة سوى دعم مصدر إنتاج الفكر التكفيري الوهابي والمصدر المالي واللوجيستي للإرهاب المسلح في جميع نقاط العالم». في المقابل، أدان ترامب الهجوم، قائلاً في بيان إنّ «سفك دماء المسيحيين يجب أن يتوقف، ويجب معاقبة جميع من يساعدون القتلة».
جدير بالذكر أنّ حركتي المقاومة، «حماس» و«حزب الله»، أدانا الهجوم بدورهما.