مع دخول إضراب الأسرى يومه الثالث والعشرين، يكون الأسرى قد أسقطوا رهانات القيادة الإسرائيلية ومصلحة السجون إزاء إمكانية تراجعهم عن الإضراب، وفرضية انكسار إرادتهم في ضوء الإجراءات القمعية الفردية والجماعية ضدهم. وهكذا يكون قد اتضح أيضاً للقادة الإسرائيليين عدم جدوى محاولات التهويل والتوهين ـــ التي سيواصلون اعتمادها ـــ في ثني الأسرى والمعتقلين عن مواصلة خيارهم بالدفاع عن أبسط حقوقهم.
يجدر التأكيد على أن أحد عناصر قوة إضراب الأسرى مطالبتهم بسقف قابل للتحقق في حال توفر التضامن المطلوب شعبياً وسياسياً، على المستويين الفلسطيني والعربي. فهم لا يضربون عن الطعام للمطالبة بتحريرهم ـــ وهو حق لهم ـــ ولا يبالغون في شعاراتهم التي يرفعونها، بل يكتفون بالحد الأدنى من حقوقهم الإنسانية والطبيعية.
في ضوء ذلك، لم يقتصر صمود الأسرى على مواصلة إضرابهم، بل أخذ منحى تصاعدياً مع انضمام آخرين إليهم، وتحديداً شخصيات وازنة ممن ينتمون إلى مختلف الفصائل وهو ما يعطي صورة إجماع وطني فلسطيني حول قضيتهم ويحفز الشارع الفلسطيني للتحرك من أجل نصرتهم.
ما بين وجوب تحريرهم، وعدم وجود أفق واضح لتحقيق هذا الواجب، وبين استمرار وضعهم على ما هو عليه، من غير المنطقي الاكتفاء بانتظار إنجاز ميداني ـــ سياسي (مفترض)، يؤدي إلى تحريرهم، وخاصة أن أي خطوة مفترضة في هذا المجال لن تشمل الجميع، بل قد لا تشمل الأكثرية منهم، ولا يُعلم كم سيمضي من الوقت حتى يتحقق هذا الإنجاز. في المقابل، لا يدرك حقيقة ضغوط هذا الواقع وأثره على صحة الأسير وجسده إلا من ذاق طعم الأسر وتلمّس معاناته. من هنا، ليس أمراً عابراً أو ثانوياً المبادرة إلى دعمهم ونصرة مطالبهم والضغط على العدو لتحقيق مطالبهم. وهو موقف يتجاوز في خلفيته ونتائجه البعد الإنساني، بل هو حق وواجب وطني وقومي وأخلاقي على كافة الشرائح والفصائل، من أجل المبادرة إلى حراك شعبي واسع وجاد.
ومما يُعزِّز ضرورة الحراك الشعبي واتساع نطاق التضامن مع الأسرى، انكشاف عدم جدوى الرهان على المفاوضات السياسية، ولا على الإدارات الأميركية، التي بدا واضحاً أنها لا تبادر إلى مثل هذه الخطوات، حتى في سياق دعم السلطة الفلسطينية التي تتمسك بالتسوية على أن لا بديل منها إلا التسوية نفسها، حتى لو كانت غير مجدية ومكلفة.
بعدما أظهر الأسرى عزمهم على مواصلة إضرابهم، تجد الأجهزة الإسرائيلية نفسها مضطرة إلى تطوير أساليب المواجهة. من جهة، هي لا تستطيع البقاء مكتوفة الأيدي بانتظار تراجعهم التلقائي، وهو أمر مستبعد في ضوء ما تلمّسوه من عزم وإصرار، وأيضاً، هم يخشون من مفاعيل توالي تساقط الشهداء في الشارع الفلسطيني، وربما يؤدي ذلك إلى تحرك خارجي يحرك دولة الاحتلال.
في الوقت نفسه، لن يبادر العدو ابتداءً إلى تلبية مطالبهم، إدراكاً منه لمفاعيل هذا الانتصار وما قد يترتب عليه من نتائج معنوية وسياسية وشعبية. وهكذا يجد صناع القرار في تل أبيب أنفسهم أمام محطة تستوجب مزيداً من الضغط لدفع الأسرى إلى التراجع.
في ضوء ما تقدم، باتت مرحلة الكباش مع أجهزة العدو تستوجب إسناداً شعبياً استثنائياً يوفر قدراً من التوازن، بل ترجيح كفة الأسرى. وليس من المبالغة القول إنه كلما تصاعد تضامن الشعب الفلسطيني بالدرجة الأولى ـــ قبل غيرهم من الجهات والقوى الإقليمية ـــ، وترجم ذلك عبر حراك واسع، بمستوى يشعر معه العدو كما لو أنه أمام انتفاضة شعبية واسعة، ازدادت أرجحية خضوعه لمطالب الأسرى، التي سبق أن أشرنا إلى أنها ليست تعجيزية، ولا تتناول عناوين بعيدة عن متناول الأيدي. ومن الضروري عدم الاكتفاء بأساليب الكناية والاستعارة، والتأكيد على أن أهم عامل ضغط على كيان العدو لإجباره على تلبية مطالب الأسرى يكمن تحديداً في حراك شعبي واسع في الضفة الغربية، لأسباب معروفة لدى الجميع.
نقطة الارتكاز في هذا التقدير المتفائل، في حال توفر شروطه، أنه إذا وجد العدو نفسه أمام خيارين: إما تلبية مطالب الأسرى أو المغامرة بالتسبب بانتفاضة شعبية، من الطبيعي أن يختار الخيار الأول. أما إذا كان لا يزال يراهن على اجتراح خيارات بديلة أخرى فسيبقى يناور ويضغط، وخاصة في حال حصوله على ضمانات أنه لن تتم المبادرة إلى حسابات سياسية ما، أو لن يُسمح بتطور الحراك الشعبي إلى هذا المستوى. ومع ذلك، تبقى الكلمة الفصل بيد الشعب الفلسطيني، وخاصة أن الحديث يدور عن قضية تحظى بإجماع شعبي يتجاوز الفصائل والتيارات والأحزاب.
إلى ذلك، يبقى كل تحرك تضامني خارج فلسطين مطلباً وضرورة تقطع الطريق بالدرجة الأولى على محاولة طمس هذه الحركة النضالية، في السجون الإسرائيلية، ومحاولة التعتيم عليها. وتساهم في تحفيز كل الأصوات التي لا تزال خجولة أو محرجة لحسابات إقليمية أو دولية، وتحديداً على أبواب وصول الرئيس ترامب إلى المنطقة. بل تساهم هذه التحركات في إعادة إحياء القضية الفلسطينية ودفعها إلى الصدارة من جديد، في مقابل كل المخططات التي تستهدف تهميشها، وجعلها في أسفل اهتمامات الشعوب العربية، بل يمكن القول إن هذا الدور يمكن أن يساهم أيضاً في الضغط على كيان العدو لتلبية مطالب الأسرى.