غزة | لم يمر رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، مرور الكرام على المناورة السياسية التي نفذتها حركة «حماس» بإعلان تشكيل لجنة إدارية لتولي شؤون قطاع غزة، وما تبعه من حديث عن «وثيقة سياسية معتدلة»، بل رأى أن الحركة كانت تطمح من خلال ذلك إلى تهيئة الساحة الدولية لقبول التعاطي مع حكمها بمعزل عن شرعية السلطة. تجاوز «الرد الرئاسي» الأطر الحزبية الرسمية لحركة «فتح»، التي أصابتها الصدمة من قرار خصم 30% من رواتب الموظفين، ومنهم مناصرون لها، فبدا الحدث كأنه استهداف ذاتيّ للحاضنة الشعبية المتبقية لـ«أم الجماهير» في القطاع.
يعلق أحد قيادات «فتح» على مجمل ما يحدث بالقول: «بعطنا (قلعنا) عينا بإصبعنا»؛ فموظّفو سلطة رام الله هم آخر الأوراق الرابحة التي كانت تراهن عليها «فتح» في معاركها ضد «حماس». وفعلياً، كان آخر «الكوابيس» التي انتظرها الغزيون خصم الرواتب الذي طاول بتأثيره المباشر حركة السوق؛ فالجزء المخصوم غالباً هو ما يتبقى للموظفين بعد حسم البنوك نسبة القروض، ثم سينعكس كل ذلك سلبياً على أموال الجباية التي تمثل العمود الفقري لعجلة رواتب موظفي حكومة غزة السابقة.

ثمة «تراخٍ» قطريّ
في مساعدة «حماس»
على تجاوز الأزمة

ورغم أن «أقاليم فتح» في القطاع ردّت على «مجزرة الرواتب» بتنظيم اعتصام جماهيري حاشد حمّلت فيه رئيس «التوافق»، رامي الحمدالله، مسؤولية ما حدث، ليس ثمة ما يشير إلى التراجع عن الخصومات، بل وفق تعميم سرّب أخيراً إلى منتسبي «جهاز الأمن الوقائي» في الضفة المحتلة، حاز قرار الخصومات موافقة مجلس الوزراء، وصدّق عليه عباس للتنفيذ. واستند التعميم إلى أن «استمرار صرف الراتب الأساسي لموظفي المحافظات الجنوبية (غزة)، يتعارض شكلاً ومضموناً مع قوانين العمل والتعاقد الوظيفي في دول العالم كافة، لأن الموظفين لا يؤدّون خدمات مقابل الرواتب».
في المقابل، تواصل «فتح» قيادة الحراك الاحتجاجي، فيما قال المتحدث باسمها في غزة، فايز أبو عيطة، إنهم يتابعون الموضوع مع القيادة الفلسطينية ويأملون التوصل إلى حل قريب. وأضاف: «الموظفون التزموا قرارات الشرعية ــ تركوا العمل وجلسوا في منازلهم ــ منذ الانقلاب عام 2007»، علماً بأن التعميم المسرّب استند في بنده الخامس إلى أن اللجنة الوزارية التي ناقشت الخصومات لم تجد أي قرار رئاسي يدعو موظفي قطاع غزة إلى الاستنكاف عن العمل، لكن أبو عيطة رفض الحديث عن هذه النقطة، ملتزماً الموقف الرسمي للحركة.
مع ذلك، أعاد الحمدالله مدّ «الجزرة» من جديد إلى «حماس»، وأعلن في مستهل الاجتماع الأسبوعي للحكومة، أمس، أن قرار «الحسم... هو تجميد لجزء من العلاوات، وليس قراراً دائماً، لكن سيعاد صرفها في حال توافر الميزانية المالية، و(إذا) استجابت حماس لمبادرة الرئيس». يشار إلى أن مبادرة عباس لحل أزمة غزة تبدأ بحل اللجنة الإدارية التي شكلتها الحركة أخيراً، وتسليم المعابر والوزارات لرام الله، والتزام بنود المبادرة القطرية: تشكيل حكومة وحدة وطنية، ثم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية خلال ثلاثة أشهر، إضافة إلى إلغاء القرارات التي اتخذتها الكتلة التشريعية لـ«حماس» في غزة.
ووفق أبو عيطة، لم تردّ «حماس» بعد على المبادرة الرئاسية، رغم أن وفد «اللجنة المركزية لفتح ينتظر انتهاء الأعياد اليهودية لزيارة غزة عبر معبر بيت حانون». وتابع: «نأمل من حماس ألا تماطل… اللجنة تريد إجابات واضحة حول مبادرة قطر».
جراء كل ذلك، قال عضو المكتب السياسي في «حماس» صلاح البردويل، في وقت لاحق، إن «خصم 30% من رواتب موظفي السلطة في غزة قرار سياسي، ولا علاقة له بالضائقة المالية، وهو ما يؤكده بيان الحكومة». ورأى البردويل أن السلطة «تحاول فرض معادلة سياسية قبل لقاء عباس مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب... حماس لن تبيع ثوابت شعبها بلقمة مسمومة».
أما عباس، فلا يبدو أنه اكتفى بخصومات الرواتب، إذ أعادت السلطة فرض ضريبة «البلو» من جديد على الوقود الصناعي الذي يشغل محطة الكهرباء في غزة، في وقت أعلن فيه رئيس «سلطة الطاقة» في القطاع، فتحي الشيخ خليل، «نفاد الوقود الذي وفّرته منحتا قطر وتركيا منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي»، وهذا ما يعني أن الغزيين مقبلون على توسع أزمة الكهرباء مجدداً.
هذه الإجراءات توحي بأنها أولى خطوات رفع اليد عن غزة، لكن المسارعة في إرسال أعضاء من «مركزية فتح» للقاء «حماس» يوحي بأن رام الله تريد إعادة القطاع إلى سلطتها. وعلمت «الأخبار» من مصادر مطلعة أن كلاً من السعودية ومصر على علم مسبق بخطوات عباس، الذي يطمح إلى الدخول في مفاوضات التسوية الجديدة مسلحاً بوجود غزة والضفة.
فضلاً عن ذلك، تذكر مصادر مقرّبة من القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، أن هذه الخطوات هي «الطلقة الأخيرة لأبو مازن تجاه غزة، لأن نتائجها وما سيتبعها ستفضي إلى ما يريده عباس... أو الفصل الكامل بين القطاع والضفة». وتكشف تلك المصادر أن «الخطوات الرئاسية المقبلة للضغط على حماس منها رفع السلطة يدها عن ملف الكهرباء، والتنصّل من دفع المستحقات المالية لوزارة الطاقة الإسرائيلية وأيضاً المصرية، اللتين توفران أكثر من ثلثي حاجة غزة من الكهرباء... وتبقى المحطة عاجزة عن الثلث الأخير».
لا يبدو أن «أبو مازن» سيتراجع قريباً عن قرار خصم الرواتب، إذ تظهر تصريحات لقادة «فتح» ــ مع أنهم نفوها لاحقاً ــ أنه لا تراجع عمّا تقرر. والأسوأ أنه لا يبدو أن أمام «حماس» وقتاً طويلاً، لأن «السلطة ستواصل خصم الرواتب لثلاثة أشهر قبل إحالة الموظفين على التقاعد المبكر»، كما تضيف مصادر أخرى في غزة، متحدثة عن قرار بنوك غزة إيقاف جميع معاملات القروض لموظفي سلطة رام الله.
في هذه الأثناء، تنشط التحريات لتصنيف موظفي السلطة في غزة بين من يوصفون بالمستنكفين أو على رأس العمل، ومن المتوقع استمرار دفع رواتب الأخيرين كلياً.
أما عن الإجماع العربي على خطوات السلطة، فتؤكد مصادر مقرّبة من «حماس» أن قطر لم تعقب حتى اللحظة على هذه الأحداث، مع العلم بأن الأخيرة سارعت في مطلع العام الجاري إلى احتواء الحراك الجماهيري المطالب بالكهرباء، والذي سبّب ضغطاً على الحركة، وذلك بدفع 12 مليون دولار وفّرت الوقود لمحطة التوليد لثلاثة شهور. لكن «السيّئ» بالنسبة إلى «حماس» أن الدوحة لم توافق رسمياً بعد على تقديم منحة مالية جديدة لموظفي غزة، الأمر الذي يزيد التوجّس من أن يكون ذلك ناتجاً من تخوّف قطري من تخريب ما تريده واشنطن.