ارتفع منسوب الخطاب السياسي الذي يتناول المسار الإقليمي للتسوية مع إسرائيل، باعتباره الخيار البديل لتعثُّر عملية التسوية على المسار الفلسطيني. وتجلى ذلك في الحديث عن «صفقة إقليمية» في خلال زيارة رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، الأخيرة لواشنطن، وكذلك في مواقف المبعوث الأميركي الخاص إلى المنطقة.
أيضا، يبدو أنه يحتل جزءاً مهماً من جدول لقاءات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مع الزعماء العرب الذين يتوالون إلى العاصمة الأميركية.
يتقاطع هذا المفهوم مع المسار البديل، الذي يُروِّج له نتنياهو، القائم على أساس عقد مؤتمر إقليمي يجمع إسرائيل إلى جانب دول «الاعتدال» العربي، وعلى رأسهم السعودية. وهو يستند في مخططه التسويقي إلى القول إن التوصل إلى سلام إقليمي مع «الاعتدال» في الخليج يمكن أن يؤدي لاحقاً إلى صيغة تسوية مع الطرف الفلسطيني.
من المفارقات أن إسرائيل سبق أن رفضت الحل الإقليمي مطلقاً طوال العقود السابقة. بل أصرت على المفاوضات الثنائية. أما الآن، فهي التي بادرت على لسان نتنياهو إلى طرح المسار الإقليمي. ما قد يوحي للوهلة الأولى أنه انقلاب على استراتيجية الصفقات المتفردة التي اعتمدتها تل أبيب منذ انطلاق قطار التسوية مع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، واستمرت في تسعينيات القرن الماضي.
ينبغي القول إن إسرائيل نجحت آنذاك في إسقاط مشروع الحل الإقليمي، لمصلحة «الصفقات الثنائية»، عبر اتفاق أوسلو (وما تلاه)، الذي جرّ وراءه اتفاق «وادي عربة» مع الأردن. وهكذا نجحت في التفرد بكل طرف عربي تسووي على حدة.
بغض النظر عن الموقف من مبدأ شرعنة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومحاولة جعل الكيان الإسرائيلي كأنه جزء طبيعي من مكونات الخريطة الإقليمية، فقد وفَّر مبدأ الصفقات المنفردة مجموعة من الإنجازات للكيان الإسرائيلي، من أهمها:
التمكن من إضعاف الموقف العربي في المفاوضات، مقابل تعزيز موقف إسرائيل.

المسار الإقليمي
للتسوية يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية

هذا يعني تثمير كل صفقة منفردة جرى التوصل إليها، على طاولة التفاوض مع بقية الأطراف المشاركة في المفاوضات التسووية. يمكن القول إن كل طرف سلك المسار الثنائي مع إسرائيل، بمعزل عن بقية الأطراف العربية الأخرى، أسهم في إضعاف نفسه (مع تفاوت بين مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية)، وفي الوقت نفسه حرم الآخرين عناصر قوة إضافية في مواجهة إسرائيل، لكن مفاعيل «كامب ديفيد»، باعتبارها الصفقة المنفردة الأولى مع كيان العدو، أدت في ذلك الوقت إلى تغيير موازين القوى في المنطقة العربية.
ولولا أن المقاومة في لبنان عادت وغيَّرت معادلة الصراع (بعد اجتياح 1982)، وصولاً إلى إجبار العدو على الانسحاب الكامل، تقريباً، عام 2000، لدخل لبنان في العصر الإسرائيلي.
في المقابل، نجحت إسرائيل عبر اعتماد المسارات الثنائية، في التفرد بالطرف الفلسطيني تحديداً، بفعل مجموعة عوامل منها القيود التي فرضها الأخير على نفسه بسبب تبنيه خيارات عقيمة، وتخليه عن عدد من أوراق القوة. لكن لولا وجود الخيار المقاوم، لنجحت إسرائيل في التهميش التام للقضية الفلسطينية.
بعدما نجح العدو في استنفاد المسارات الثنائية في خدمة استراتيجيته الإقليمية، انتقل إلى مرحلة طرح مشروع سياسي جديد يتلاءم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، ولخدمة أهداف إضافية.
وحتى ذلك الوقت، كان يفترض أن أنظمة «المساومة على فلسطين» تتبنى معادلة «المبادرة العربية» بنصها الحرفي من دون أي التفاف عليها (على أنها تمثل الحد الأدنى بعد التخلي عن نحو 80% من فلسطين)، مقابل حصول إسرائيل على «الجائزة» الإقليمية. تتمثل هذه الجائزة، وفق منطق أنظمة المساومة، بالانتقال إلى مرحلة التطبيع الرسمي مع كيان العدو والانفتاح العلني عليه على المستويات كافة. لكن إدراك الإسرائيلي أن قضية فلسطين تحوّلت إلى عبء على هذه الأنظمة، التي تسعى جاهدة إلى التحلل منها، دفعه إلى الطموح في الحصول على الجائزة من دون أن يضطر إلى دفع أثمان الحد الأدنى للطرف الفلسطيني.
على خطٍّ موازٍ، لم يعد خافياً أن هذه الأنظمة تعمل جاهدة على إخماد القضية الفلسطينية، لمصلحة تبديل بوصلة العداء من إسرائيل إلى الجمهورية الإسلامية في إيران. هذا الواقع، وجدت فيه تل أبيب أرضية خصبة للرهان على المصالح المشتركة التي تبلورت بينها وبين هذه الأنظمة، وهو عزز الرهان لديها على إمكانية القفز فوق المسار الفلسطيني، والدفع نحو مسار إقليمي، الذي هو في الواقع عملية التفاف تهدف إلى تهميش القضية الفلسطينية على أمل تصفيتها، وفي الوقت نفسه، الانتقال إلى مرحلة التحالف بين إسرائيل وهذه الأنظمة، على قاعدة مواجهة التهديدات والمصالح المشتركة.
مع ذلك، ينبغي القول، إن ما أسهم في تزخيم هذا الرهان على هذا المسار، في تل أبيب وعواصم «الخيار المساوِم»، حالة الخراب التي أحدثتها الجماعات المسلحة والإرهابية في سوريا والعراق، ثم تبني ترامب، الحل الإقليمي باعتباره جزءاً من استراتيجية مواجهة محور المقاومة وعلى رأسه طهران.
بالمقارنة بين المرحلتين، يتضح أن مرحلة المسار الإقليمي، من منظور إسرائيلي، ليست انقلاباً على استراتيجية سابقة، بل هي امتداد لها؛ كلٌّ بما يتلاءم مع الظروف السائدة. وبمعنى من المعاني، هو ثمرة من ثمرات «الصفقات المتفردة».
بعبارة أدق: بعدما حققت استراتيجية «الصفقات المتفردة» أهدافها في تفكيك الجبهة العربية في مواجهة إسرائيل، ومكَّنتها من التفرد بكل منها، سياسياً وأمنياً، وصولاً إلى تطويق الشعب الفلسطيني وقواه المقاوِمة والمساوِمة، انتقلت إسرائيل في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية، إلى مرحلة قطف الثمار على حساب قضية فلسطين، على أمل أن يكون هذا المسار مدخلاً لإقحامها في النسيج الإقليمي، وتقديمها كحليف طبيعي لقوى إقليمية، أنظمة وحركات سياسية، بما فيها التي يحمل بعضها شعارات إسلامية.
الرهان الأساسي في كل هذه المعادلات التي توالت، يبقى على الشعب الفلسطيني القادر على رفد نضاله بالإبداعات المتواصلة التي تُمكِّنه من تزخيم مقاومته وإبقاء قضيته حية في الوجدان العربي والإسلامي، ومن أن تفرض نفسها على عواصم القرار الدولي والإقليمي الذي يحاول تهميشها، والأهم إيصال المحتلين الصهاينة، بفعل تراكم النضال والمقاومة، إلى مرحلة اليأس من الرهان على إمكانية توفير احتلال آمن.