تونس | دون الدخول في جدالات التعريف، يُعبّر مصطلح «المجتمع المدنيّ» بالشكل المستخدم به هنا عن نشاط تضطلع به فئة أو فئات من المواطنين في المجال العام دون التطلع إلى تحقيق أغراض سياسيّة مباشرة لصالحها ــ وإن كان نشاطها يستهدف سياسات بعينها سواء عامة (تتخذها الدولة) أو خاصة (تتخذها شركات). ويقف هذا التعريف في مقابل تعريف «المجتمع السياسي» الذي يتمحور نشاطه حول تحصيل منافع سياسيّة مباشرة ــ انتخابيّة بالأساس.
الأشكال التقليديّة: تمثيل منقوص

انقسمت منظمات المجتمع المدني العاملة في تونس قبل الثورة إلى قسمين رئيسيّين. نشط قسم أوّل تحت إدارة «حزب التجمع الدستوري الديموقراطي» الحاكم حينها، وتوزّع بين جمعيات نسائيّة وطلابيّة واجتماعيّة، وظائفها الأساسيّة حشد الدعم للنظام الحاكم داخلياً، وإسباغه بصورة ديموقراطيّة خارجياً. ونشط قسم ثان على نحو أكثر استقلاليّة، حيث حافظت نقابات (مثل الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس) ومنظمات مهنيّة أخرى، مثل عمادة (نقابة) المحامين، على مسافة من النظام، فيما جرى التضييق أو منع نشاط منظمات أخرى، تستهدف أكثر من مجرد الدفاع عن فئة مهنيّة، مثل «الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان» و«المجلس الوطني للحريات» و«المنظمة التونسيّة لمناهضة التعذيب».
بناء على ما سبق، يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات حول نشاط المجتمع المدني في ظلّ الاستبداد. حيث كان نظام زين العابدين بن علي، يرى في الجمعيات والمنظمات المدنيّة أداة حشد وكسب للشرعيّة الداخليّة والخارجيّة، مع قبوله باستقلاليّة جزئيّة لبعض المنظمات التي يضمن عدم انسياقها بعيداً في معارضته من خلال إحداث اختراقات داخلها (وهو ما حصل في النقابة الوطنيّة للصحافيّين التونسيّين مثلاً)، أو من خلال خلق علاقات زبائنيّة مع قياداتها العليا على نحو منحهم امتيازات وتسهيلات لضمان التزامهم بالمطالب المهنيّة وفي حدود مضبوطة (وهو ما حصل في اتحادي الشغل والطلبة مثلاً).
أما من ناحية أساليب العمل، فقد كانت هياكل المجتمع المدني المعترف بها تعمل وفق نواميس ثابتة. حيث كانت تعتمد أساساً التفاوض المباشر مع السلطة في شكل جلسات عمل، أو تعبّر عن مطالبها في شكل عرائض وبيانات. كما كانت تلتجئ إلى الإضرابات في حالات قصوى ونادرة. لكن ذلك لا يعني تقيّدها الكامل بهذا العقد الضمنيّ مع النظام، حيث لا يمكن حصر منظمات المجتمع المدني في شخوص قياداتها. إذ كانت الهياكل الوسطى والقاعديّة، خصوصاً في المنظمات الواسعة مثل اتحادي الشغل والطلبة، تنظم بصفة دوريّة ندوات فكرّيّة بجوهر سياسي، أو تظاهرات حول قضايا قوميّة، مثل الحرب على العراق أو الحرب على غزّة، تشمل في كثير من الأحيان إشارات إلى الأوضاع الداخليّة المتردية.
ورغم خروج المنظمات المهنيّة في فترة الحراك الثوريّ عن طابعها الفئويّ الضيّق لتلعب دور الحاضنة للحراك، فإنها تبقى هياكل حصريّة عاجزة عن تمثيل يتجاوز قاعدة المنخرطين ضمنها.

الأشكال الجديدة: الانفتاح وأخطاره

منذ الأسابيع الأولى الموالية لهرب الرئيس الأسبق بن علي، بدأت جمعيات المجتمع المدنيّ في البروز وطرح مهام تتجاوز ما تطرحه المنظمات المهنيّة، حيث تبنت قضايا تتعلق بالشأن العام. ويستدعي الدفاع عن مبادئ مجردة من قبيل الشفافيّة أو محاسبة الفساد أو الدفاع عن حقوق الإنسان إلخ، التوجّه إلى جميع النّاس باختلاف انتماءاتهم.
لكن الملاحظ بخصوص جزء واسع من هذا الشكل المستجد هو ارتباطه المباشر، عن طريق فروع لجمعيات دوليّة، أو غير المباشر، من ناحية الأدوار التي يطرحها على نفسه وأساليب العمل التي يتبناها، برعاة أو شركاء أجانب، غربيّين في المقام الأول وعرب في المقام الثاني. وبعيداً عن الحكم القيمي على مثل هذا الارتباط، من الضروري التساؤل عن رهاناته وعن القيود التي يفرضها.

تخلّص المجتمع
المدني من ثقل
رقابة النظام ليقع
تحت رقابة جديدة

جوهر الموضوع هو أنّ للممولين حقول عمل كبرى يجب على متلقي تمويلاتهم الالتزام بها. ذلك يعني أنّ الممولين يحدّون من حريّة الفاعلين المدنيّين الجدد ويفرضون عليهم الالتزام بأجندات معيّنة، قد تكون ثانويّة، دون غيرها. حيث يُفرض مثلاً الالتزام بالجانب الرقابيّ تجاه السلطة من ناحية الشفافيّة والحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان، أو يُفرض على الجمعيات الثقافيّة الالتزام بالترويج لقيم التسامح الدينيّ ومناهضة التطرف والتربية على المواطنة.
ويمكن القول إنّ جزءاً من المجتمع المدنيّ تخلّص من ثقل رقابة النظام ليقع تحت رقابة من نوع مختلف، بحيث عوّضت «أبويّة» الممولين «هيمنة» نظام بن علي. وأنتج هذا الوضع ظاهرة «الناشطين المحترفين»، وهم فئة متفرّغة للعمل المدنيّ تتلقى كمقابل رواتب تقتطع من جملة ما يدفعه الرعاة. ومشكلة هؤلاء هي دخولهم في علاقة اعتماد لا فكاك منها، حيث تحوّل العمل من أجل الصالح العام، الذي هو في الأصل فضيلة مطلوبة لذاتها، إلى مصدر رزق. وتحوّل الشغف بخدمة المجموعة، إلى سعي لصرف التمويلات بهدف تبرير الوجود.
أما من ناحية أساليب العمل، فلا يعتمد هذا القسم من الجمعيات الجديدة على النشاط المباشر في الشارع في شكل مظاهرات واحتجاجات، بل يعتمد أساليب تستهدف تكوين وتدريب كادر قادر على أداء المهام المطلوبة. حيث تُنظم على مدار السنة دورات تدريبيّة، موضوعها القوانين وتفاصيلها والإجراءات وتراتبيتها. يلي ذلك، العمل المنظّم في المساهمة بمراقبين للانتخابات ومتابعة العمل البرلماني والوعود الحكوميّة ونشر النتائج في مواقع إلكترونيّة مصممة للغرض، وكوّنت بعض هذه الجمعيات كذلك مجموعات تحضر اجتماعات لجان الانتداب الوظيفيّ في المؤسسات الرسميّة ومراصد للتبليغ عن حالات الفساد. أما في حالة الجمعيّات الثقافيّة، فتنظم ورشات عمل ومجموعات تفكير وجلسات حواريّة لترويج طروحاتها التي ساهم الممولون في حالات كثيرة في صياغتها وتوجيهها.
لكن لا يجب لهذا القسم أن يطغى على قسم آخر من الجمعيات، يتمتع باستقلاليّة أكبر وحريّة أوسع في النشاط، مردهما التعويل على قدرات ذاتيّة تطوعيّة. وربما تكون تعبيراته الأكثر جدّية حركات مدنيّة تتجاوز حتى تراتبيّة الجمعيات وهياكلها وتتشكل حول أهداف محصورة بدقّة. من بين هذه الحركات الأفقيّة تنظيميّاً حركة «مانيش مسامح» التي تشكلت عقب إعلان الرئيس الباجي قايد السبسي، عن مبادرة تشريعيّة للعفو على آلاف من موظفين السامين في الدولة ورجال أعمال ثابتة بحقهم جرائم أو تجاوزات. وتتبنى الحركة كأسلوب عمل النشاط الميداني في شكل مظاهرات واحتجاجات مفتوحة، وتنشط كذلك في مواقع التواصل الاجتماعيّ من خلال صياغة شعارات وتقديم معطيات محرّضة على ما أُطلق عليه رسميّاً «مشروع المصالحة الاقتصاديّة».