للوهلة الأولى، توحي مقولة أن إسرائيل قررت بناء أول مستوطنة منذ أكثر من 20 عاماً، كأنها كانت طوال هذه الفترة الزمنية مقيدة عن خيار التوسع الاستيطاني، بل ما جرى في خلال هذه الفترة بالذات من زحف استيطاني في الضفة المحتلة يفوق بناء الكثير من المستوطنات، حتى باتت الخريطة الاستيطانية تحول دون تطبيق حل الدولتين، وفق صيغة الحد الأدنى المطروحة فلسطينياً.
مع ذلك، يعود غياب الإعلان عن بناء مستوطنات طوال أكثر من عقدين إلى تغير في التكتيك، لاعتبارات عدة. إذ جرى بدلاً منه تبني تكتيك بناء الوحدات الإسكانية للمستوطنات القائمة حتى تضاعفت أحجام المستوطنات، وصولاً إلى المرحلة الحالية التي دفعت القيادة السياسية لاعتبارات داخلية محضة إلى الخروج عن هذا التكتيك عبر تبني قرار بناء مستوطنة جديدة.
ويأتي إعلان بناء المستوطنة ترجمة لتوجه أيديولوجي سياسي، يقوم على أساس أولوية الاستيطان، ومن أجل ذلك، تعمل حكومة بنيامين نتنياهو على استغلال فترة المراوحة السياسية منذ ما بعد اتفاق أوسلو من أجل فرض أمر استيطاني واقع. وبدلاً من أن يكون هذا الاتفاق عاملاً كابحاً للتوسع الاستيطاني وفق النظرية ــ الخدعة، على أنه ليس سوى محطة مرحلية باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية، حوّلته إسرائيل إلى غطاء سياسي مررت في ظله تمددها الاستيطاني.
لم تبخل إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على نتنياهو بالموافقة على بناء المستوطنة في موازاة مساعيها لتحريك عملية التسوية. ولم تشجب أيضاً قرار بناء 2000 وحدة سكنية في المستوطنات القائمة في الضفة، ولم تنعت المستوطنات بأنها غير شرعية. في المقابل، انتزعت من حكومة نتنياهو الموافقة على تنظيم التوسع الاستيطاني تحت شعار كبحها.
وتكشف هذه المعادلة عن السقف السياسي الذي تتبناه إدارة ترامب إزاء المرحلة المقبلة. فمن جهة، تقول للسلطة الفلسطينية إن المطلوب منها التكيف مع هذا السقف الاستيطاني، وإلا فالبديل التوسع دون قيود وحدود. ومن جهة أخرى، تخاطب اليمين الإسرائيلي بالقول إن هذه الصيغة تمثل نقطة التوازن بين حد استمرار التوسع الاستيطاني، وحدّ الحفاظ على العملية السياسية مع السلطة الفلسطينية، منعاً لإعلان نهاية الرهان على التسوية.
مع ذلك، تنطوي هذه الصيغة على مجموعة من النقاط الإيجابية لنتنياهو. فلا يوجد تجميد رسمي وكامل للبناء في المستوطنات، ولا يوجد قيود على البناء في الأحياء اليهودية شرقي القدس، ولا يوجد تمييز في البناء بين الكتل الاستيطانية الكبرى، والبناء في المستوطنات المعزولة. وهو ما أسهم في إمرار هذه المعادلة في أوساط المستوطنين وائتلافه الحكومي.
كذلك، تمكن نتنياهو من تسجيل المزيد من النقاط في رصيده الاستيطاني عبر الانتقال إلى مرحلة تنفيذ وعده لمستوطني «عمونا»، التي أُخليت بناءً على قرار «المحكمة العليا». وفي المقابل، استطاع المستوطنون أن يرسموا أمام الحكومة خطوطاً حمراً مثل أنه لا تفكيك لأي بؤرة استيطانية دون بناء مستوطنة بديلة في الضفة.

تبحث واشنطن إمكانية استضافة مؤتمر لقادة الخليج وعباس مع نتنياهو


هكذا، استطاع نتنياهو إقناع المجلس الوزاري المصغر بصيغة تسمح له بالمحافظة على صورة الزعيم اليميني الذي لا يتخلى عن ثوابته، عبر التمسك بالاستيطان في رأس أجندته السياسية، وفي الوقت نفسه، صورة الزعيم العاقل الذي يراعي المستجدات السياسية. مع ذلك، اتضح أن المسار الذي بلورته إدارة ترامب يبقى دون آمال المستوطنين واليمين المتطرف، وأكثر «تقدماً» من الخيار الذي تبناه الرئيس السابق باراك أوباما، عبر إضفاء مزيد من المشروعية على التوسع الاستيطاني المنظم.
بات على الطرف الفلسطيني والعربي التكيف مع هذا السقف وقبوله كمنطلق لإعادة تحريك مسار التسوية على المسار الفلسطيني، وهكذا تكون السلطة وأنظمة «الاعتدال» العربي الخليجي، أمام تحدي تلبية المطلب الأميركي بالانتقال إلى مرحلة المسار الإقليمي، انطلاقاً من هذا السقف الاستيطاني.
مما يعزز هذا البعد ما كشفته صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية عن بحث إدارة ترامب في إمكانية استضافة مؤتمر خلال الصيف المقبل، يجمع قادة الخليج والرئيس الفلسطيني محمود عباس ونتنياهو على منصة واحدة. ويشير ذلك إلى حقيقة أن القمة العربية، في الأردن، لم تغلق الباب أمام الحلم الإسرائيلي بحل إقليمي يضم الفلسطينيين أو يتجاوزهم. وأهم ما ينطوي عليه هذا المؤتمر، أنه يمثل بالنسبة إلى إسرائيل قفزة نوعية في التطبيع الرسمي مع النظام السعودي، وبداية علنية للتحالف العربي الخليجي ــ الإسرائيلي في مواجهة إيران وحلفائها.
ويتساوق هذا المسار مع أولويات ترامب ونتنياهو، كما يلبي توجهات النظام السعودي. مع ذلك، فإن التحدي عند نتنياهو هو الحصول على الثمن الذي يؤمله من دون الاضطرار إلى دفع أثمان بالعملة الفلسطينية بما يتجاوز ثوابت اليمين الإسرائيلي.
بموازاة ذلك، عمد نتنياهو إلى تنفيذ سلسلة مبادرات تجاه الفلسطينيين في الضفة والقطاع، من دون أن يفصل فيها. وربط ذلك بما اعتبره أمام المجلس الوزاري المصغر عزم ترامب على إحراز تقدم في الموضوع الإسرائيلي ــ الفلسطيني وإنجاز صفقة بين الطرفين. ولفت نتنياهو إلى أنه لا يعلم كيف يريد الرئيس الأميركي تحقيق ذلك، لكن المهم أن تكون إسرائيل الجانب الذي يظهر الرغبة الجيدة وألا تُعتبر من يعرقل العملية الأميركية.