نيويورك | ساعاتٌ قليلة عصر أمس، كانت كافية لتبديد كل الآمال التي عُقدت على توصّل «مؤتمر جنيف» إلى اتفاق شامل، عززتها جرعات تفاؤل تبيّن في ما بعد أنها مجرّد مسكّنات سبقت إعلان وصول المحادثات إلى طريقٍ مسدود. لم يملّ وفد الرياض حتى الساعات الأخيرة من المشاورات التي استمرّت خمسة أيام، من محاولات ابتزاز وفد صنعاء، والتحايل عليه عبر المبعوث الدولي إسماعيل ولد الشيخ، بالاضافة إلى سعي الفريق السعودي إلى الخروج باتفاق يعطي شرعيةً للعدوان، وينتزع مكاسب تعصى عسكرياً على السعودية، أولها فرض الانسحاب على الجيش اليمني و«اللجان الشعبية»، مقابل غياب أي تعهد بوقف العمليات العدوانية من قبل التحالف.
اليوم الأخير من المؤتمر شهد ما يمكن وصفه بـ«حرب أوراق العمل». ظهر أمس، تقدم ولد الشيخ بـ«ورقة الأمم المتحدة» للحلّ الشامل، تضمّنت 7 نقاطٍ، تنصّ أولاً على إعلان هدنة شاملة على الأقل خلال شهر رمضان، ثانياً تسهيل عمل المنظمات الإنسانية وإدخال المساعدة إلى المناطق كافة، ثالثاً، وضع آلية للانسحاب بالتزامن مع الهدنة. رابعاً، تنصّ على آلية تنفيذ الاتفاق والتحقق من التطبيق والإشراف.
أي وقف للنار من دون
تطبيق قرار مجلس الأمن
سيعدّ انتصاراً لـ«أنصار الله»
خامساً، إطلاق العملية السياسية عبر حوارٍ تشارك فيه كل المكوّنات. سادساً، احترام القانون الإنساني وحماية المدنيين وتوفير المساعدات الإنسانية. سابعاً، تنظيم المبعوث الدولي مشاورات سياسية.
وفي هذا الشأن علمت «الأخبار»، أن ولد الشيخ، أعدّ ورقة لم يقدمها رسمياً إلى «وفد صنعاء» تتضمن ربط أي هدنة إنسانية في اليمن بتطبيق مبطّن لقرار مجلس الأمن الدولي ٢٢١٦ من طريق الانسحابات التي يحكى عنها من المدن، ولا سيما من مدينة عدن. الورقة تشرح آليات الانسحابات التي ترمي إلى خروج الجيش و«أنصار الله» من المدن بحيث تخضع لرقابةٍ دولية مفترضة، وهو ما ترفضه صنعاء جملةً وتفصيلاً، خصوصاً بعدما أضحت الأمم المتحدة بعد القرار المذكور، محط شك صنعاء التي تنظر إليها كداعم لطرف ضد طرف آخر. هذه الورقة مثلت بالنسبة إلى وفد القوى السياسية اليمنية، النقطة التي أفاضت الكأس. كذلك كان من المفترض أن يلتقي «وفد صنعاء» بولد الشيخ، لكن الوفد اليمني فوجئ بأن المبعوث الأممي تغيب وبعث في مكانه نائباً له أميركي الجنسية قدم مطالع تبين من خلالها أن ولد الشيخ قد تراجع عن كل التفاهمات التي عقدوها معه في السابق.
وفد صنعاء كان في المقابل، قد قدّم رؤيته للحلّ عبر ورقةٍ قدّمها في لقائه بولد الشيخ ليل أول من أمس. يرى الوفد أن أي اتفاق شامل عليه أن يتضمّن إعلان وقف إطلاق نار دائم بين القوى اليمنية المتحاربة بما يمكّنها من بحث حلٍّ شامل بما فيه بحث انسحاب كل تلك القوى من المدن الرئيسية وآليات تحقيق ذلك، بما لا يمنع التصدّي لعناصر «القاعدة» ومنعهم من السيطرة والانتشار؛ وذلك خلال فترة زمنية محدّدة، بما يفضي إلى إحياء العملية السياسية وفق المرجعيات المتفق عليها. ثانياً، طالب الوفد بـ«الإنهاء الفوري للحصار المفروض على الشعب اليمني بأشكاله كافة، بما يكفل دخول كل الاحتياجات من دون قيود، وبما يسمح بإدخال واستيراد الغذاء والدواء والمشتقات النفطية وغيرها.
وفي مؤتمره الصحافي الذي أعلن فيه المبعوث الدولي بلوغ المباحثات طريقاً مسدوداً، قال ولد الشيخ إن لديه خطة «لكنها تحتاج إلى اتفاق مع مجلس الأمن الدولي ومع الأمين العام للأمم المتحدة»، مشيراً إلى أن عدم الإفصاح عن هذه الخطة يعود إلى عدم تفاهم الفريقين على وقف النار. لكنه في المقابل، تحدث عن «أرضية يبنى عليها»، وهي التي تقوم على تقبل «أنصار الله» بحسب قوله لقرارات الأمم المتحدة بما فيها القرار ٢٢١٦. وأكد أن الاتفاقية تقتضي نشر مراقبين دوليين. لكنه لم يحدد كيف يمكن أن تمنح تنظيمات مسلحة على الأرض مثل «القاعدة» والمجموعات المسلحة المتطرفة الأخرى مثل «داعش» وسواه، ضمانات بعدم استهداف المراقبين أو اختطافهم للحصول على فدية.
وفد صنعاء لم يعد يثق بتاتاً بولد الشيخ الذي أكد أنه سيواصل مساعيه في الأيام المقبلة للوصول إلى حلٍّ. فخلال اجتماعاته في جنيف، دأب على عقد لقاءات تشاورية منتظمة مع مسؤولين من الاستخبارات السعودية ومع الدبلوماسيين الغربيين وأخذ التعليمات من غرفة عمليات أقيمت خصيصاً لهذه الغاية، وبالتالي بات مشكوكاً في أمر بقاء ولد الشيخ في منصبه. لذلك، طلبت «أنصار الله» والأحزاب الأخرى الاجتماع بالأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. «أنصار الله» لمسوا أيضاً خلال أسبوع أن المبعوث الأممي لعب على ورقة التفريق بين «أنصار الله» وحزب «المؤتمر» بزعامة علي عبد الله صالح. وحتى بعد بلوغ الساعات الأخيرة من المشاورات، لم يستصدر المبعوث الدولي بطاقات دخول خاصة لأعضاء وفد صنعاء إلى مقر الأمم المتحدة في جنيف.
من جهةٍ أخرى، يقول مصدر دبلوماسي لـ«الأخبار»، إن حكام الرياض الجدد ربطوا سياستهم الداخلية والخارجية بالنجاح في اليمن، وإن أي وقف للنار من دون تطبيق لقرار مجلس الأمن الدولي، سيعدّ انتصاراً لـ«أنصار الله»، وهذا من شأنه «تقويض السياسة السعودية في المنطقة على نحو مذلّ».
مصادر مطلعة استبعدت حدوث هدنة في اليمن حتى خلال شهر رمضان. لذلك اكتفى ولد الشيخ بالحديث عن تخفيفٍ للحصار السعودي من خلال السماح للشحنات التجارية بالوصول إلى موانئ اليمن المختلفة وفق آلية يجري وضعها في الرياض. الآلية تجري بالتنسيق مع ١٧ وكالة دولية حسب قوله. ويخشى وفق تلك الآلية السرية أن تقوم على التمييز بين مناطق وأخرى وفق أجندات سياسية، مثلما حدث في الماضي حين كانت باخرة إماراتية تفرغ حمولتها في عدن لأطراف موالية للسعودية، بينما كانت المساعدات الأخرى تفرغ في جيبوتي وتخضع لحصار شديد وتمنع من الانتقال إلى ميناء الحديدة.
اليوم يحاول السعوديون الخروج بخطة ترضي حلفاءهم ولا يستفيد منها خصومهم. هدنة على شكل تسوية يطلبها الأميركيون وسواهم من أعضاء مجلس الأمن، لأن الوضع الإنساني في اليمن يهدد بكارثة ستحرج الجميع. واشنطن تدعم أيضاً حلاً يقوم على مبدأ تقاسم السلطة مع الحوثيين في ضوء الاجتماعات التي أجروها معهم في مسقط، بالرغم من أنها تستفيد من العمل العسكري السعودي على كل المستويات السياسية والمالية والعسكرية، ولا سيما في ظل مفاوضاتها مع طهران حول الملف النووي. هي تعلم مسبقاً أن العمل العسكري السعودي لن يؤدي إلى أي نتيجة حقيقية على الأرض. أما عواقبه السلبية فيمكن استيعابها داخل السعودية بتغييرات محتملة داخل الأسرة الحاكمة تأتي برؤوس أقل جموحاً من عقلية محمد بن سلمان.
في الحصيلة، إن اجتماعات جنيف التي خفضت من مؤتمر إلى «مباحثات» ثم «مشاورات»، بقيت في إطار «إعلان نيّات» يصعب تطبيقها على الأرض، فأي انسحاب للجيش و«اللجان الشعبية» من أي مكان سيكون في مصلحة تنظيم «القاعدة» وحده، خصوصاً بعدما بات الجيش و«اللجان» على مشارف محافظة حضرموت، معقل «القاعدة»، وذلك بعد سيطرتهم على محافظة الجوف الحدودية. هذه السيطرة تجعل سقوط حضرموت أسهل من جهة، وتجعل الجبهة السعودية مكشوفة، وتهدد الداخل السعودي على امتداد مئات الكيلومترات.