بعيداً عن تفاصيل ما ورد من تخمينات إسرائيلية تتصل بالدور الروسي في التصدي السوري للطائرات الإسرائيلية، ينبغي القول إن الاعتداء الأخير ضد أحد مواقع الجيش السوري في ريف حمص الشرقي، يتسم بخصوصيات تُميِّزه عن اعتداءات سابقة كثيرة، كونه أتى في سياق أكثر من عنوان ميداني وسياسي، ينطوي كل منها على رسائل ودلالات سياسية خاصة.
أتى الاعتداء في ظل حالة من اليأس باتت تخيم على تل أبيب، ويُعبّر عنها رسمياً وعلى ألسنة المعلقين المختصين حول إمكانية تغيير موازين القوى على الساحة السورية، بما يمكن أن يؤدي إلى إسقاط الرئيس بشىار الأسد والدولة السورية، لمصلحة نظام بديل معادٍ لمحور المقاومة يسمح بتغيير المعادلة مع حزب الله، وتطويقه، تمهيداً للقضاء عليه، وشطْب التهديد الاستراتيجي الذي يمثله التواصل مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
هناك فرق كبير بين الضربات الإسرائيلية التي كانت تحدث في ظل قناعات ــ تبين أنها أوهام ــ بحتمية سقوط نظام الأسد كنتيجة للمواجهة العسكرية، وبين ضربات تأتي بعدما باتت تل أبيب ترى أنها أمام مسارين بالحد الأدنى: المراوحة الميدانية ــ بالمعنى الاستراتيجي – وهو ما سيكرس انتصار محور المقاومة ويبدد الرهانات على إمكانية تغيير المعادلة الإقليمية، وبالحد الأقصى المقدَّر إسرائيلياً، ترتيب سياسي ما للساحة السورية، لكن ضمن سقف الثوابت التي ترى فيها تل أبيب تهديداً فعلياً على أمنها القومي.

الخيارات الإسرائيلية البديلة عبر موسكو باتت أكثر تعقيداً


في الأولى، تندرج الضربات ضمن إطار اقتناص فرص موضعية في سياق مسار انحداري متوهم لمحور المقاومة يترتب عليه تصاعد موقع إسرائيل ودورها في المعادلة الإقليمية، وفي الثانية، تندرج ضمن إطار اقتناص فرص موضعية في سياق مسار تصاعدي لمحور المقاومة يقزم موقع إسرائيل ودورها الإقليمي، ويعزز موقع المحور في معادلة الردع الإقليمي، كما يفتح الباب أمام تداعيات لاحقة تتصل بمجمل المعركة في فلسطين.
من جهة أخرى، أتى الاعتداء بعد زيارة نتنياهو الأخيرة التي أكد فيها أنه أبلغ رسالته للطرف الروسي حول الخطوط الحمر الإسرائيلية المظللة برهانات تدور في أروقة القرار في تل أبيب، حول دور روسي ما يحدّ من مفاعيل انتصار محور المقاومة في سوريا، على المعادلة ضد إسرائيل.
نتيجة ذلك، أقل ما يمكن به وصف مفاعيل الرد السوري أنه أحبط الرهان الذي كان يراود صناع القرار في تل أبيب حول ما كانوا يأملون به من دور روسي ما يتصل بالقرارات السورية المتصلة بدورها بالمعادلة الاستراتيجية القائمة بين محور المقاومة وإسرائيل.
كشف الرد أيضاً على نحو ملموس، لنتنياهو بالدرجة الأولى، ثم لباقي أطراف المؤسسة الإسرائيلية، عن هامش الدولة السورية في ما يتعلق بخيارات المواجهة في ظل الوجود الروسي على ساحتها، كما يتوقع أن تحضر رسالة الرد، على طاولة التشريح لدى المؤسستين السياسية والاستخبارية.
في هذا المجال، ما حدث من تصدّ باتت نتائجه الميدانية خلفنا، لكن ما بات واضحاً وأكثر حضوراً يتمحور حول الخطوات التي يمكن أن يقدم عليها السوري في مراحل لاحقة، وخاصة أن ما جرى يعزز في الوعي والحسابات الإسرائيلية درجة «معقولية» حدوث مفاجآت غير محسوبة بما يضع الجميع أمام استحقاقات ميدانية كان يفترض أنها مستبعدة، وذلك على فرض حضوره ضمن مروحة الاحتمالات الماثلة لدى من يقررون وينفذون الاعتداءات في الساحة السورية.
في ضوء ما تقدم، الخلاصة الأكثر خطورة التي بدأت أحرفها الأولى تتبلور في تل أبيب، هي أن مشكلتها إزاء الخيارات البديلة المتجددة (عبر البوابة الروسية) على الساحة السورية، باتت أكثر تعقيداً.
أما لجهة واشنطن، فأقلّ ما يمكن قوله هو أن تل أبيب تقدر ــ أو تعلم ــ أن استراتيجية إدارة دونالد ترامب على الساحة السورية لن تكون بما يلبي طموحاتها لجهة تغيير المعادلة السورية، وهو ما انطوى في مطالبة وزير الأمن أفيغدور ليبرمان، لدى زيارته الأخيرة لواشنطن، بدور أميركي فعال. وهذه الحقيقة دفعت إسرائيل وحشرتها للتمسك بتعزيز العلاقات مع روسيا، على أمل أن تحقق عبر بوابة موسكو بعض ما كانت تأمل تحقيقه عبر البوابة الأميركية وحلفائها الإقليميين.
في هذا السياق، تكمن خطورة الرسائل التي ينطوي عليها قرار الرد السوري، وما قد ينتظر إسرائيل في عدد من المحطات اللاحقة، الأمر الذي سيفاقم حشر الإسرائيليين، وخاصة بعد سلسلة الخيبات التي امتدت على سنوات الأزمة، بدءاً من تبدد الرهان على الجماعات المسلحة والإرهابية، ثم على استدراج واشنطن إلى دور عسكري مباشر في الساحة السورية عملت عليه تل أبيب طوال السنوات الماضية.
والآن، تتوالى المعطيات والرسائل والتطورات التي (سـ)تعزز الانطباع والتقدير في تل أبيب القائل بأنها بالغت كثيراً في الرهان على البوابة الروسية، للحد من مفاعيل انتصار محور المقاومة في الساحة السورية وعبرها. مع ذلك، ستبقى إسرائيل في المدى المنظور متمسكة بتعزيز التواصل وبالرهان على موسكو، بعدما باتت خياراتها ضيقة ومحدودة، عملاً بالمفهوم القائل: «القليل خير من الحرمان».