دمك بُشرى يا باسل، في أرض غابت عنها البشائر منذ عقدين وأكثر. هكذا يقول وعيك لنا عن دمك، وهكذا دمك يترجم وعيك. فصاحب الوعي مصاب بالأمل لا محالة. وهل غير الأمل ابن الوعي يمكن أن يمنح الفارس إرادة الإقدام في زمن التراجع؟ وهل يولد الوعي إلا من الاهتمام بالتفاصيل؟ كم عدد العيون التي كانت تلاحقك متسائلة في سرّها عن سرّ اختيارك الهامش وسرّ قدرتك على الانتماء إليه دون تذمر؟ أمجنون هذا أم مغامر؟ وكم مرة قلت في سرّك وعلنك: غوصوا في التفاصيل حتى تروا ما أراه؟
كنت تعرف تمام المعرفة أن الثابت الوحيد في المجتمعات أنها دائمة التغير، وأن التغير هو نتيجة ضرب وطرح وقسمة وجمع وجدل التناقضات بعضها ببعض. ولأنك دائم الغوص في التفاصيل، استطعت أن ترى حجم ونوع التناقضات التي يعيشها الشعب، لذلك كانت هناك معركتك، ومن هناك كنت تغرف الأمل، ولهذا غصت في العمل. عملت مع أصغر الوحدات الاجتماعية ومن أضيق البقع الجغرافية. فقبل استعادة برتقال يافا، عليك أن تعتني بالزيتونة التي في ساحة بيتك، وقبل استعادة يافا نفسها عليك أن توقف تمدد المستوطنة التي تراها من شرفتك.
هذا المنطق الذي حكم عملك، إنه منطق العمل «المنمنم»، الذي يقود نتائج جدل التناقضات لمصلحة معركتك. فأنت تعلم أن النصر في المعركة الكبرى لا بد له من انتصار في معارك صغرى. وأن الوعي وإن انهار دفعة واحدة، فهو لا بد أن يُبنى خطوة بخطوة. كنت تعرف أن الفرق شاسع بين الوقوف أمام الهاوية والانشغال بتفسيرها، وبين محاولة وضع حدّ لها.
أليس هذا ما سمّيته أنت «الاشتباك»؟ وأليس هذا هو تعريفك للمثقف؟ المثقف ليس القادر على تفسير حالة الانحدار فقط، بل من يشتبك مع أسبابه بهدف إيقافه، وإلا ما حاجتنا إلى المعرفة؟ إذن، المثقف هو من يعمل بالمعرفة وليس من يمتلكها فقط، فما بالك بالمثقفين الذين يتخذونها سلّماً لزيادة أملاكهم؟ «هؤلاء»، بالمناسبة، يكرهونك، لأن اشتباكك يكشف عوراتهم ويعرّي معارفهم. وأنت أيضاً لا تبحث عن محبتهم. نعلم ذلك.
هل هنالك أسباب أكثر من هذه ليغتالوك؟ أكثر ما يخيف الاستعمار في المناضل هو أن يتجاوز في نضاله حدود العمل المجرد ليتحول إلى فكرة. لذلك اقتحموك ليلاً بكامل غضبهم ليقتلوا فيك الفكرة. وأكثر ما يخيفهم في الفكرة أنها معدية وسهلة الانتشار. وأكثر ما يخيفهم في انتشار الفكرة أنها لا بد أن تقود إلى التغيير. الاستعمار لا يطمئن إلى المناضل عندما يلقي بندقيته، بل عندما يلقي مع البندقية وعيه بها.
لا بد أنك سمعت الكثير من الجدل والنقاش حول جدوى العمليات الفردية، وحتى حول جدوى النضال عموماً. هذا النقاش هو المعنى لإلقاء الوعي إلى جانب البندقية. هكذا فقط يطمئن المستعمر. ومن وعيك الذي لم يسقط ولم يتراجع يوماً، كنت قد أجبت هؤلاء الذين يتجادلون حول جدوى النضال بقولك إن «كل ثمن تدفعه في المقاومة، ستحصل على مقابله. إذا لم يكن في حياتك، فستأخذه لاحقاً. المقاومة جدوى مستمرة».
هذا هو تعريف للبطولة ومعناها، أو بكلمات أدق: معنى البطولة الاستثنائية. البطل هو من يتقدم في زمن التراجع. من يصرخ ولا ييأس مع أنه لا يسمع إلا صدى صوته. البطل من يذهب باتجاه الوطن في وقت تذهب فيه الغالبية باتجاه ذواتها الضيقة. هذه البطولة لا تولد إلا من أمل، والأمل لا يولد إلا من وعي، والوعي أنت زرعت بذرته، وسينبت زهراً، وفعلاً لا محالة.
هذا ليس رثاءً لك، بل احتفال ببشارة لنا فيك.