استشهد باسل الأعرج بعد عام كامل من مطاردة العدو له. هذه الخاتمة كانت متوقعة لغالبية أصدقائه، خصوصاً بعدما اعتقل جيش العدو جميع أفراد المجموعة التي اتهمتها السلطة الفلسطينية بالتخطيط لتنفيذ عملية فدائية ضد مستوطنين. لم أتخيل يوماً أن الشاب المثقف والضعيف البنية الذي تعرفت إليه في بيروت منذ سنتين، سيأخذ الخيار العسكري.
فنحن ــ أصحاب الأقلام والكتب والصحف ــ نفضّل القول إننا نقاتل العدو فكرياً وثقافياً، لكن الأعرج كان أسمانا وأفضلنا، فهو جمع الثقافة والمقاومة العسكرية. وباسل، لمن لا يعرفه، موسوعة متنقلة أو «أطلس فلسطين»، كلما احتجت إلى معرفة معلومة عن تاريخ فلسطين عدت إليه، ولطالما توجهت إليه لمعرفة قصة أغنية تراثية أو مثل شعبي فلسطيني.
في التاسع من نيسان الماضي، اعتقلت «السلطة» الشهيد بتهمة إعداده مع رفيقيه محمد حرب وهيثم السياج لتنفيذ عملية. بعد ذلك بأيام، قال رئيس السلطة محمود عباس، في مقابلة مع «القناة العاشرة» الإسرائيلية، إن الأجهزة أوقفت مجموعة كانت تنوي تنفيذ عملية كبيرة ضد الإسرائيليين. لم أصدق كلام «الرئيس»، لأنني لم أتوقع أن هذا المثقف اللطيف ارتقى إلى مقاوم يسعى إلى تنفيذ عملية أمنية، ولكنه فعلها وأثبت أن بإمكان المثقف المواءمة بين النضال الثقافي والعسكري.
بعد اعتقاله ورفاقه لستة أشهر وخوضهم إضراباً مفتوحاً عن الطعام، أفرجت السلطة عن باسل، لتبدأ المطاردة الإسرائيلية لهم. نفذ جيش العدو عمليات دهم في مختلف مناطق الضفة المحتلة واعتقلت رفاق الأعرج: محمد حرب، وهيثم السياج، وسيف الإدريسي، ومحمد السلامين، وعلي دار الشيخ. أما الوحيد الذي لم تستطع شرطة ومخابرات العدو والسلطة العثور عليه حتى فجر أول من أمس، فكان الشهيد الأعرج.
تابعتُ أخبار المداهمات الإسرائيلية، وعند نشر أسماء المعتقلين كنت أفرح أن الأعرج ليس بينهم. ولدى دهم منزل العائلة، كنت أسأل شقيقته شيرين الصابرة عنه. بعد مطاردة لمدة عام، وتكثيف العدو لعمليات الدهم في الضفة بحثاً عن الأعرج، اقتحمت سلطات العدو فجر أمس مبنى في مخيم قدورة في رام الله وسط الضفة، تحصّن فيه باسل. في تمام الساعة الواحدة والنصف فجراً، ينقل زملاء فلسطينيون حدوث «عمل أمني» في رام الله.
مع استمرار العملية، ورد خبر في الإعلام الإسرائيلي عن «إطلاق إرهابي النار على جنود الجيش». بدأت الأخبار بالتواتر، جرح شخصان ونُقلا إلى مجمع فلسطين الطبي القريب من المخيم. لحظات، ويرد خبر آخر على الإعلام الإسرائيلي: «منذ مدة وجيزة، خلال عملية للجيش الإسرائيلي في رام الله، أطلق انتحاري النار باتجاه قوة من الجيش التي أطلقت النار عليه. قتل الإرهابي وأصيب آخر وهرب، ولم تقع إصابات إسرائيلية».
ينقل إليك بعض الشهود في المنطقة أن جنود العدو أخذوا الجثمان معهم. حتى الآن تتعاطى مع الخبر بموضوعية، ولا تتوقع أن يكون صديقك هو نص الخبر. تنتظر صدور اسم الشهيد. يتأخر الإعلان عنه حتى الساعات الأولى من صباح أمس: «استشهاد الشاب باسل الأعرج في مخيم القدورة».
ما كنت تتوقعه وتخشاه، صار حقيقة الآن. الشاب المثقف الذي كان يأخذ الشبان الفلسطينيين في رحلات إلى مواقع تاريخية وقعت فيها معارك بين الفلسطينيين ضد البريطانيين والصهاينة قبل عام ١٩٤٨، صار شهيداً. استذكرت جميع الأحاديث التي دارت بيننا. الأحاديث الشخصية عن عائلته وأصلها، وإخفائه المقاومين في الصيدلية التي كان يعمل فيها في بيت لحم، وصولاً إلى زيارته القاصرين في المعتقلات الإسرائيلية وتأثره بالأطفال المقاومين خلال الانتفاضة، وتحديداً «الحاج يحيى» ابن الـ١٢ عاماً، الذي أتعب الإسرائيليين وهم يبحثون عنه.
رحل باسل الأعرج. عائلته كانت تتوقع استشهاده، فكما قالت شقيقته وصديقته شيرين «فش غير مبروك، صدق الله فصدقه، الله يتقبله ويجمعنا فيه على خير، يعني كلنا متوقعين هالخبر بس ما صار أسهل، الله رحمه ونظر اليه».