القاهرة | متناقضة جاءت المواقف في مصر من خطاب شيخ الأزهر في خلال «مؤتمر الحرية والمواطنة»، الذي استضافته القاهرة الأسبوع الماضي، ولا سيما أنَّ بعض ما تضمنه من لهجة، بدا مغايراً لنهج الاعتدال، الذي طالما ميّز الخطاب الرسمي للإمام الأكبر.
البعض أدرج خطاب شيخ الأزهر في إطار تكتيك الهرب إلى الأمام، الذي اعتمده أحمد الطيب، بعد سيل الانتقادات التي وجهت إلى المشيخة، بعدم تجرؤها على اتخاذ موقف حاسم يخرج «داعش» من الإسلام. فحاول أن يدين «التكفيريين»، باعتبارهم مجرّد «قلّة» منحرفة عن تعاليم صحيح الدين، فلا يُغضب بذلك مناصريهم، وهم كثر، حتى داخل المؤسسة الدينية المصرية، ولا يُواجه بهجمات على غرار تلك التي تعرّض لها بعد مؤتمر غروزني (انعقد خلال الصيف الماضي)، الذي أخرج الوهابية من أهل السنّة والجماعة.
وأما البعض الآخر، فنظر إلى خطاب الطيّب من باب شدّ العصب داخل المؤسسة الأزهرية، في ظل الصراع المستجد مع السلطة السياسية، وذلك عبر شعارات تدغدغ مشاعر كثيرين، سواء في شن حرب شعواء على «الأفكار المادية» ــ التي تحوّل تكفيريو أبو بكر البغدادي، بنظر الإمام الأكبر، إلى خدّام لها بسحر ساحر ــ أو في «التعليم» على الديانات الأخرى، غير المنزّهين عن الإرهاب، على طريقة المثل الشعبي المصري: «لا تعايرني ولا أعايرك... طول ما الهمّ طايلني وطايلك».
وعلى قدر ما أتت المواقف متناقضة، فإنّ ما نطق به الشيخ الطيّب، عكس تخبطاً في الخطاب الأزهري، وقدّم دليلاً إضافياً على ما تشهده المؤسسة الدينية الأقدم في العالم، من أزمة بنيوية، تعطل تطورها، إن على المستوى التنظيمي، الذي يضيّق هامش استقلاليتها في مواجهة السلطة السياسية ــ وهي إشكالية عمرها من عمر الأزهر نفسه ــ أو على مستوى تجديد الخطاب الأزهري، الذي يعاد تدويره منذ عقود، ضمن صندوق كتب التراث الفقهي، بما يشكل، بدوره، أحد أوجه أزمة الخطاب الديني العام المولد للتشدد، الذي يراوح تأثيره بين النزعات الاجتماعية المحافظة العالقة عند تعاليم من قبيل «ادخل برجلك اليمين»، وبين التيارات التكفيرية المتعددة الأشكال، بما في ذلك أكثرها توحشاً.
لعلّ كل ما سبق، يجعل القفزة التي أقدم عليها الشيخ الطيّب، تندرج ضمن سيناريو من اثنين: فإما أنّ الإمام الأكبر قد تعمّد التشدد لحشد أئمة الأزهر، بتوجهاتهم المختلفة، في «الجهاد الأكبر» ضد محاولات الاختراق التي ينتهجها النظام السياسي؛ وإما أنها خطبة الوداع، التي ربما قصد منها تسجيل موقف يذكره التاريخ، قبل أن ينكفئ عن المشهد نهائياً. كلا السيناريوهين محتمل، وإن كان أحدهما يتقدم على الآخر.
ولعلّ ما يعزز فرضية السيناريو الأول، أنَّ الأزهر يعيش اليوم أزمة وجودية، من شأنها أن تجعل فكرة الطلاق مع المؤسسة السياسية «أبغض الحلال»، ولا سيما أنَّ الاندفاعة السياسية للرئيس عبد الفتاح السيسي، تشي برغبة حثيثة في التوغّل داخل المساحات الخاصة بالمؤسسة الأزهرية من بوابة «تجديد الخطاب الديني»، وتحديداً في الحيّز الحساس، الذي يقوّض ما بقي للأزهر من نفوذ في المنظومة الاجتماعية، وهو ما كشفت عنه أزمة «الطلاق الشفهي» الأخيرة.
هذا الاقتحام للحيّز الأزهري الخاص، المرتبط خصوصاً بمسائل الأحوال الشخصية، من شأنه أن يزعزع العلاقات البينية في جوهر النظام السياسي في مصر، ويجعل «العمامة» تتمرد على «الخوذة»، بنحو عنيف، على غرار المؤسسة القضائية، التي نادراً ما تُصدِر أحكاماً مناقضة لتوجهات المؤسسة السياسية، إلا حين تقدم الأخيرة على اختراق المساحة الخاصة بها، فتتمرد بدورها على قرارات السلطة التنفيذية، وأقرب مثال على ذلك الحكم التاريخي ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، أو ما يعرف إعلامياً باسم اتفاقية تيران وصنافير.
لكن تركيبة الأزهر، برغم كل ما تقدّم، تجعل احتمالية «الجهاد الأكبر» هذا أقل ترجيحاً، قياساً إلى الخيارات الأخرى، المراوحة بين المهادنة والانكفاء والاستسلام، خصوصاً أنَّ المؤسسة الدينية تعاني تنازعاً، منذ عقود، بين تيارات عدّة.
ولعلّ نظرة سريعة على خريطة النفوذ في الحالة الإسلامية المصرية، تشكل مفتاحاً لفهم توزّع القوى دخل المؤسسة الأزهرية، خصوصاً أنَّ المشيخة تُعَدّ، بدرجة كبيرة، مرآةً للأولى، وهو ما تؤكده طبيعة الاصطفافات الفقهية والسياسية داخلها.
انطلاقاً من ذلك، يمكن تقسيم القوى الفاعلة داخل المؤسسة الأزهرية إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى، تشمل الدعاة والأئمة المرتبطين بأجهزة الدولة المصرية ــ السياسية والأمنية ــ الذين يُسمَّون تاريخياً «أئمة السلطان»، فهم أولئك الذين يميلون غالباً إلى تنفيذ تعليمات السلطة السياسية، ويشكلون الغطاء الشرعي لأعمالها، أو حتى يغالون في تقديم واجب الولاء للسطان، على غرار وزير الأوقاف مختار جمعة، الذي ذهب بعيداً في تطبيق مقترحات رئيس الجمهورية بتجديد الخطاب الديني، حين اقترح توحيد الخطبة الدينية لمدة خمسة أعوام، وهو ما انتقده الرئيس نفسه، حين سخر علناً من الوزير، فتوجه إليه قائلاً: «يا راجل الموضوع أكبر من كده».
أمّا الفئة الثانية، فهي خليط «إخواني» ــ سلفي، سعت في خلال عهد الرئيس محمد مرسي إلى السيطرة على مشيخة الأزهر، وهي تتقاسم الكثير من الأفكار، وتباعدها الكثير من الأفكار الأخرى، لذلك فإن تأثيرها حالياً يكاد يكون مقتصراً على العرقلة أكثر منه الفعل، حيث إنَّ جناحها «الإخواني» ينظر إلى الشيخ الطيّب باعتباره أحد الداعمين لـ «انقلاب» الثالث من تموز عام 2013، بينما يعارض السلفيون جوهرياً التوجهات الصوفية للإمام الأكبر، وبعض مواقفه، التي ازدادوا ارتياباً بشأنها، على خلفية الجلبة المرافقة لمؤتمر غروزني.
وأما الفئة الثالثة، فتشمل الأئمة والدعاة من ذوي الخطاب المستقل، وهم الحلقة الأضعف في المعادلة الأزهرية، لافتقادهم أيّ ظهير قوي في المؤسستين الدينية والسياسية على حدّ سواء.
هكذا يجد شيخ الأزهر نفسه بين كماشتي النسخة الحكومية والنسخة الإخوانية ــ السلفية داخل الأزهر، فيما هو ليس قادراً على الاستفادة من الطرق الصوفية، الآتي من صفوفها، باعتبارها ــ خلافاً لما يظنّه كثيرون ــ مجرّد كرنفالية، أكثر منها حالة حركية قادرة على استلهام التجارب الصوفية الأخرى، كالطريقة النورسية، التي انتجت حركة الخدمة، والتي تحوّلت حالياً الى ما يسمّى «كياناً موازياً» في تركيا.
كل تلك الأسباب تجعل الشيخ الطيب عاجزاً عن تأمين الجبهة الداخلية الأزهرية لخوض أي مواجهة لتكريس استقلالية الأزهر أو حتى صد محاولات التوغل داخل ما بقي له من مساحات، خصوصاً أنَّ السلطة السياسية مستعدة للذهاب بعيداً في تلك المعركة المحتملة، وغير المتكافئة.

يمكن تقسيم القوى
الفاعلة داخل مؤسسة
الأزهر إلى ثلاث فئات

ولعلّ الإمام الأكبر يدرك جيداً أنه على امتداد تاريخ الأزهر، كانت الكفة مرجّحة دائماً لمصلحة المؤسسة السياسية، إلا في ما ندر، لا بل إنَّ نشأته، أيام الفاطميين، ارتبطت برغبة السلطة السياسية نفسها في تقوية نفوذها، عبر نشر المذهب الإسماعيلي من جهة لتكريس الاستقلال عن الدولة العباسية التي كانت تعتمد المذاهب السنّية، ولتأمين منصّة دينية موازية لجامعة القرويين في المغرب، ومنافسة لها، في الدولة الوليدة.
يضاف إلى ذلك أنَّ الطيب بنفسه ليس صدامياً، لا بل ثمة رواية تقول إنه لم يقبل بترشيحه لمنصب شيخ الأزهر في عام 2010، إلا بعد ضمان موافقة «الحزب الوطني»، الذي كان يشغل فيه حينها عضوية في أمانة السياسات.
هكذا، تبدو قدرة شيخ الأزهر محدودة على مقارعة السلطة السياسية، وهذا ما يجعل السيناريو الثاني، أي الانسحاب من المشهد، أكثر ترجيحاً، مع اختلاف الآراء بشأن الإخراج، بين الاستقالة أو الإقالة من جهة، وبين خيار الاعتكاف، كما حدث بعد أحداث الحرس الجمهوري الدامية غداة سقوط نظام «الإخوان المسلمين» عام 2013.
وبين السيناريوهين الأول والثاني، ثمة احتمال وسطي، يبقى رهناً بالتوافق بين شيخ الأزهر ورئيس الجمهورية على العودة إلى خطوط الاشتباك/ أو قواعد اللعبة السائدة، حتى لا يدخل النظام السياسي في أزمة صراع بين مكوّناته. وضمن هذا الاحتمال، يمكن فهم بعض من المواقف التي تضمنها الخطاب الأخير للطيب، أو مواقف سابقة أطلقها، في خضم أزمة «الطلاق الشفهي»، حين وجه دعوة ضمنية للسلطة السياسية إلى الاهتمام بالملفات الخاصة بها، وترك ما اتصل من ملفات بالشؤون الدينية إلى الجهات المختصة داخل الأزهر.
ولكن ذلك إن حدث، فسيعني أنَّ «تجديد الخطاب الديني» سيدخل مرّة جديدة في الدائرة المفرغة، ولا سيما أنَّ شيخ الأزهر قد يبدي موقفاً أكثر تشدداً إزاء الكثير من القضايا، التي تتجاوز قضية «الطلاق الشفهي»، حتى لا يخسر ظهيراً يمكن أن يسانده في مواجهة الجناح الحكومي داخل المؤسسة الدينية، وهذا يعني بطبيعة الحال أنَّ الظرف لن يكون ملائماً لتنقية ما في مناهج التعليم الأزهري من آراء يصفها البعض بـ«الداعشية»، أو إصدار فتاوى تناقض بعض المبادئ التي يستند إليها التكفيريون في ممارستهم الحركية، أو على الأقل حسم الجدل في صفوف علماء الأزهر أنفسهم من الثوابت الدينية، مثل «الناسخ والمنسوخ» و«المعلوم من الدين بالضرورة» و«الولاء والبراء»... إلى آخر تلك النظريات التي يختلف اعتمادها وتفسيرها بين الحركات الإسلامية.
ثمة إجماع على أنَّ الأزهر، ببنيته وتركيبته الحالية، عاجز عن القيام بدوره في «تجديد الخطاب الديني»، الذي يبقى تحقيقه رهناً، إمّا بتصوّرات مثالية، لا تجد من ينفذها في صفوف الأزهريين، وإما بتدخل مباشر من السلطة السياسية، بما يقود إلى ما يشبه «تأميماً» للمؤسسة الأزهرية!




جليدٌ... لا يذوب

القاهرة ــ الأخبار | تنقل مصادر رسمية أنّ اللقاء الأخير الذي جمع شيخ الأزهر بالرئيس عبد الفتاح السيسي، يوم الأحد الماضي، لم ينجح في إذابة الجليد بينهما، وذلك في وقت تتردد فيه أنباء عن دعم السيسي خطوة تعديل القانون الخاص باختيار «الإمام الأكبر»، بحيث يتم تحديد مدة تولي مهماته بأربع سنوات، لا تجدد إلا لمرة واحدة. وهذا يعني إمكانية إطاحة الطيب في آذار من العام المقبل (تولى المنصب في آذار 2010).
وكان قانون اختيار شيخ الأزهر قد جرى تعديله عام 2012، فنُزعت صلاحية اختياره من رئيس الجمهورية، وهي تعديلات مررها المجلس العسكري قبل أيام قليلة من نقل السلطة التشريعية إلى البرلمان، الذي سيطرت عليه جماعة «الإخوان المسلمين» في ذلك العام.
لكن المصادر تشير إلى أنّ ما يجري الحديث عنه الآن ليس سوى مجرد «بالونة اختبار» لمدى التقبل الشعبي لهذه الخطوة، وكذلك تقبل هيئة كبار العلماء لها.