لم يكن متوقعاً أن يتناول تقرير مراقب الدولة آلاف الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا بنيران الجيش الإسرائيلي خلال عدوان الجرف الصامد، على قطاع غزة، في عام 2014. فالتقرير محاولة لاستخلاص العبر من أجل أن يتمكن الجيش الإسرائيلي في الحرب المقبلة من قتل الآلاف، لكن من دون أن يتعرض لخسائر مؤلمة كما حصل في العدوان الأخير، ومن دون فشل عملاني واستخباري. لذلك، لم ينتقد التقرير أهداف الحرب ولم يتناول نتائجها، وإنما انتقد الأداء السياسي والعسكري خلالها.
انتقد التقرير نتنياهو كونه لم يفحص البدائل السياسية التي كان يمكن أن تحول دون نشوب الحرب. لكن هذا المفهوم يحتاج الى المزيد من التدقيق. فهو يقدم نتنياهو كما لو أنه أخطأ في التقدير ولم يحسن اختيار الموقف، غفلة. في حين أنه كان يتعمد عدم تقديم تسهيلات لسكان القطاع كجزء من استراتيجية محدَّدة الأهداف، ويدرك أنها تساهم في رفع مستوى الغليان الشعبي والمقاوم. والهدف كان بكل وضوح ومباشرة، ردع المقاومة ومحاولة دفعها الى تقديم التنازلات المتصلة بثوابتها الوطنية، وإسقاط النموذج الذي قدمته غزة في المقاومة كخيار وحيد لتحرير الأرض الفلسطينية المحتلة. بالطبع، لا يعني ذلك أن نتنياهو الذي تعمد الضغط على القطاع، أنه كان يدفع نحو مواجهة عسكرية واسعة مع القطاع، وإنما كان يهدف الى مواصلة التنكيل بحياة الناس في القطاع، ولكنه لم يتوقع أن تؤدي الى مواجهة عسكرية واسعة، وأن تستمر 51 يوماً.

انتقد التقرير
بنيامين نتنياهو كونه
لم يفحص البدائل السياسية

ووفقاً للرؤية التي يتبناها رئيس الوزراء الإسرائيلي، كان ولا يزال، من الطبيعي أن يرى في رفع الحصار وتحسين الوضع الاقتصادي بشكل جدي، نسبياً، بهدف تفادي انفجار الوضع الأمني، على أنه رسالة ضعف. وعادة ما تقارب المؤسسة الإسرائيلية مثل هذه المواقف على أنها ستؤثر سلباً على معادلة الردع الذي يحاول تعزيزه، ويقدم المقاومة كجهة قادرة أيضاً على توفير مستلزمات الحياة تحت ضغط السلاح.
أما بخصوص كلمة يعلون، التي وردت في تقرير المراقب، أنه كان بالإمكان تفادي الحرب لو سعت إسرائيل إلى تخفيف المعاناة الإنسانية في غزة، فهي أتت من باب حكمة بعد الفعل، أي بعد اشتعال نيران المدافع. وأيضاً، لأن إسرائيل وجدت نفسها وقد تورطت في معركة لا أفق لها على المستويين العسكري والسياسي. فلا هي على استعداد للتوغل عميقاً في غزة، وتحمل الخسائر البشرية المؤلمة، وتحديداً بعدما فوجئت بالأنفاق. ولا هي مستعدة لتقديم ما تراه تنازلات لغزة، كما لو أنها خضعت للمقاومة في القطاع... ولا يوجد أي أفق لاتفاق سياسي مع فصائل المقاومة للأسباب المعروفة.
ما يعزز هذه الرؤية أن سياسة الحصار لا تزال قائمة بعد انتهاء الحرب، ولا يعكس هذا الأداء كما لو أنها ترى في هذا «الخيار» أنه خطأ يجب تصحيحه، بل تعمد الى محاولة تثمير هذه السياسة عبر عروض متعددة، تتمحور حول مقايضة تحسين الواقع الحياتي في القطاع، مقابل التخلي عن خيار المقاومة. واقترن ذلك، في الأشهر الأخيرة برفع مستوى الاعتداءات الإسرائيلية، رداً على صاروخ عشوائي يسقط هنا أو هناك في الفلوات. وفي هذا الإطار، حذر رئيس الاستخبارات العسكرية، أمان، اللواء هرتسي هليفي، أمام لجنة الخارجية والأمن، من مفاعيل الوضع المعيشي في القطاع، مشيراً الى أنه في حال شعور الفلسطينيين بفقدان الأمل، فإن ذلك سيؤدي الى تفجير الأوضاع مع القطاع. واعتبر أنه حتى يتم التوصل الى اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين، يجب دفع خطوات للتطوير الاقتصادي من أجل تخفيف الإحباط النابع من غياب أفق سياسي.
بمعنى آخر، إن ما حدده التقرير أسباباً للحرب في حينه، وما أدلى به رئيس الاستخبارات العسكرية قبل يومين، يكشف عن أن هذه الأسباب لا تزال قائمة، لأن الحصار مستمر والأزمة الإنسانية تتفاقم يوماً بعد يوم... والإسرائيلي يواصل اعتداءاته ضد القطاع.
على المستوى الداخلي، لا ينبغي الذهاب بعيداً في تقدير مفاعيل التقرير على مستقبل الحكومة ورئيسها، بل جل ما يمكن الحديث عنه أن رئيس البيت اليهودي استطاع أن يسجل بعض النقاط في سياق التنافس مع نتنياهو على تصدر معسكر اليمين، ولا يتوقع أن تترتب على التقرير، بذاته، أي مفاعيل سياسية داخلية مفصلية في المدى المنظور. مع ذلك، أتى توقيت نشر التقرير بالتزامن مع الفضائح التي يتم التحقيق حولها مع نتنياهو، والتي سيكون لها الكلمة الفصل في تحديد مستقبل نتنياهو السياسي. وهو أمر مرتبط حصراً، بالدرجة الأولى، ما سينتهي إليه التحقيق معه، وما كان سيتوّج بتقديم لائحة اتهام بحقه. وفي حينه يبنى على الشيء مقتضاه.