القاهرة | أقل ما يمكن أن يقال في الكلمة التي ألقاها شيخ الأزهر أحمد الطيب، في مؤتمر الحرية والمواطنة أمس، إنها لم تكن موفقة في كثير من محاورها، سواء في انسلاخها عن العنوان العريض لهذا الاجتماع «العالمي» الذي حضره مئات رجال الدين والعلمانيين من مذاهب إسلامية ومسيحية متعددة، أو في ما تضمنته من مواقف نارية، أطلقت على «المتطرفين» الذين يعيثون في العالم إرهاباً، لكنها وُجّهت في الواقع إلى آخرين، يعدّون اليوم من ضحايا «التكفير»، بما فيه «الأزهري».
الشيخ الصوفي، متخرج جامعة «السوربون»، والموصوف محلياً وعالمياً بأنه أحد رموز الاعتدال، بدا أكثر رغبة، بالأمس، في شد العصب الإسلامي حول مشيخته، التي باتت واقعة، منذ سنوات، بين سندان تضاؤل استقلاليتها لمصلحة المؤسسة السياسية في مصر، ومطرقة التيارات المتشددة، التي تغلغلت داخلها، نتيجة لتراكمات كثيرة، أبرزها على الإطلاق البعثات الدينية، التي كان الأزهر يرسلها لشبه جزيرة العرب، منذ عقود، والتي ما لبث أفرادها أن عادوا إلى مصر، مشبّعين بالأفكار الوهابية، و«سنّة النفط المقدس».
ربما هذا ما دفع «الشيخ الطيب» إلى أن يتبنى بعضاً من خطاب الصقور، في هجومه النادر، في شراسته، على بعض التيارات الفكرية، ذات النزعة المادية، مع الحرص على التمايز في رفض أساليب التيارات الإسلامية المتشددة، القائمة على الإرهاب.
تلك النقطة الأخيرة تُحسب، من دون شك، لشيخ الأزهر، ولكن مقاربته لمسألة التشدد والإرهاب، بدت مجرّد جهد كلامي لتبرئة الدين الإسلامي، من الجرائم التي ترتكب باسمه، على طريقة «هذا الفعل ليس من الإسلام» و«الإسلام بريء من هذا»... إلى آخر تلك الشعارات التي تنهال بعد كل عمل إرهابي في العالم.
ولكن ما لا يمكن فهمه، في هذا السياق، كيف يمكن تبرئة الإسلام مما فعله «الدواعش» وأمثالهم، بمجرّد كلام خطابي، لا يرقى إلى قرارات حاسمة، تستجيب للمطالبات بتكفير هؤلاء، أو إصدار فتاوى حاسمة ــ غير شكلية ــ بتفنيد أفكارهم، المستوحاة من الوهابية، التي أخرجت من مذاهب أهل السنّة، خلال مؤتمر غروزني، بحضور شيخ الأزهر، الذي سرعان ما تبرأ منه، كي لا يُغضب السعودية!
على هذا المنوال، لم يمتلك شيخ الأزهر جرأة كافية لنبذ الإرهابيين من الإسلام، ولو حتى بشعار عام، براغماتي، يحاكي على سبيل المثال «تقية» حسن البنا حين تبرأ من بعض قادة «التنظيم الخاص» في مقاله الشهير «هؤلاء ليسوا إخواناً ولا مسلمين»، فالأمر بالنسبة إلى الطيب مجرد «تفسيرات مغشوشة تتنكّب بها طريق الأديان» و«تخطف بها النصوص المقدسة لتصبح في يد القلة المجرمة الخارجة عليها، وكأنها بندقية للإيجار»، لا بل هو ينتقد «الشرذمة، وفي أمرها العجيب، حين ترفع راية واحدة هي راية الإسلام، ثم لا تلبث أن يكرّ بعضه على بعض بالتخوين والتكفير».
رب قائل إن الأزهر بعدم تكفير «الدواعش» ينطلق من قاعدة فقهية لا تجيز تكفير المسلم، ولكن فلننظر قليلاً إلى بعض ما تحويه مناهج الأزهر نفسه، من تعاليم تكفيرية، تتراوح بين إنزال القصاص بالمخالفين، إلى تخيير «المرتد» بين أن «يسلم أو يقتل»... أو إلى ما تحفل به المحاكم المصرية من دعاوى بحق كتّاب وشعراء وروائيين بتهم مثل «المس بالذات الإلهية» و«الحض على الفجور»!
حتى كلمة «الشيخ الطيب» في المؤتمر الأزهري، لم تبتعد عن خطاب يلامس «التكفير»، ليس بمفهومه الفقهي النظري فحسب، بل في السياق التطبيقي، حين استحضر «أقبية الشيوعية والنازية» ــ على حد تعبيره ــ لشن حرب لا هوادة فيها على «المروّجين للفلسفات المادية» و«الداعين إلى إباحة المخدرات، وتدمير الأسرة، وإحلال نظام الجنس الاجتماعي، وقتل الأجنّة في بطون أمهاتهم، والتشجيع على الإجهاض وحق التحول إلى ذكر أو أنثى حسبما يريد المتحول ومتى يشاء، والعاملين على إحلال العولمة محل القوميات، والداعين إلى العولمة، وإزالة الفوارق بين الشعوب، بعد القضاء على ثقافاتها، والقفزِ على خصائصها الحضارية والدينية والتاريخية».
لا بل إن شيخ الأزهر ذهب أبعد من ذلك في سياق محاولة النأي بالأديان عن الإرهاب، فـ«الماديون»، وفقاً لقوله، «يصمتون صمت القبور عن قتلى الحروب المدنية التي أشعلها الملحدون وغلاة العلمانيين، في مطلع القرن الماضي ومنتصفه، ولم يكن للدين فيها ناقة ولا جمل، مع أن أي تلميذ في مراحل التعليم الأولى لا يعيه أن يستعرض قتلى المذاهب الاجتماعية الحديثة ليتأكد من أن التاريخ لم يَحْصر من ضحايا الأديان منذ أيام الجهالة إلى العصر الحاضر عُشر معشار الضحايا الذين ضاعوا بالملايين قتلاً ونفياً وتعذيباً في سبيل نبوءات كاذبة لم تثبت منها نبوءة واحدة، بل ثبت بما لا يقبل الشك أنها مستحيلة على التطبيق».
عند هذه النقطة، ربما يكون شيخ الأزهر قد وقع في فخ الخلط بين «الإرهاب التكفيري»، بطابعه العبثي والمتخلف، و«العنف الثوري» على سبيل المثال، والذي اتفق معه المرء أو نبذه، إلا أنه لا يسعه إنكار ما أسهم به بعضه في بناء دول، يسود فيها مفهوم المواطنة، التي لم يحتل الحديث عنها سوى 12 في المئة من كلمة الطيب ــ وهي نفسها النسبة التي احتلت فقرتَي الترحيب البدائي والختامي ــ من الخطاب الذي وصفته وسائل الإعلام المصرية، مسبقاً بـ«التاريخي».