القاهرة | تغيّرت مصر كثيراً بين «فيرمونت الإخواني» و«فيرمونت الأزهري»، إلا شيئاً واحداً، جدّده مؤتمر «الحرية والمواطنة»، أو بعبارة أدق أعاد استنساخه، وهو شعار «الهلال مع الصليب»، الذي بدا معه المشهد العام أقرب الى مشاهد الوحدة الوطنية في الأعمال السينمائية والدرامية المصرية، كمشهد اجتماع الوحدة الوطنية في فيلم «حسن ومرقص».
ولكن الحق يقال، فإنّ اجتماعات من هذا القبيل، ورغم طابعها الاستعراضي، في زمن «السوشال ميديا»، حيث تبارى معظم الحاضرين على التقاط الصور الذاتية ــ السلفي، تبقى صوتاً صارخاً في صحراء المشرق العربي وكهوفه، التي باتت مليئة بتيارات التكفير على اختلاف مشاربها.
الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الأزهر، والذي شاركت فيه وفود من خمسين دولة، استهلت بكلمة لشيخ الأزهر أحمد الطيب، وتضمنت في مجملها عنواناً عريضاً هو «تبرئة للإسلام» ضد من وَصفهم بأولئك الذين «يتهمون الإسلام بالبنيان» الذي دمر مركز التجارة العالمي في نيويورك، وسفك الدماء في مسرح باتكلان في فرنسا، وفجّر محطات المترو فى بروكسل، معيداً السبب الرئيس في ذلك الى النقص في فهم تعاليم الدين الصحيحة، ومتهماً «قلة مجرمة» بـ«اختطاف النصوص المقدسة»، وتحويلها الى «بندقية بالإيجار تشعل النار لمن يدفع الثمن من تجار الحروب والأسلحة».
الطيب تعرّض خلال كلمته لما سمّاه «ظاهرة الإسلاموفوبيا» في أقطار الغرب، مشيراً إلى أن آثارها بالغة السوء، وقد انعكست على المواطنين المسلمين. ولفت إلى أنّ «المتأمل المنصف في ظاهرة الإسلاموفوبيا لا تخطئ عيناه هذه التفرقة اللامنطقية، أو هذا الكيل بمكيالين بين المحاكمة العالمية للإسلام من جانب، وللمسيحية واليهودية من جانب آخر، رُغم اشتراك الكل في عريضة اتهام واحدة، وقضية واحدة، هي قضية العنف والإرهاب الديني»، ضارباً الأمثلة على العنف المسيحي واليهودي في العالم.
تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، قال في كلمته التي جاءت متوازنة ومعتدلة إلى حدّ كبير، إن مصر والمنطقة العربية كلها ما زالتا تعانيان من الفكر المتطرف المتشدد، الذي يعدّ «أكبر تحديات العيش المشترك»، مشيراً إلى أن أسباب ذلك تتمثل في التربية التي وصفها بـ«الأحادية» القائمة على الرأي الواحد المكفّر لكل من يختلف معه، إضافة إلى الطائفية وغياب ثقافة احترام الآخر.
تواضروس الذي تواجه كنيسته واحداً من أحدث التحديات الإنسانية في مصر، في ظل استمرار حالات التهجير لمسيحيي العريش، على خلفية تهديدات «داعشية» لاحقتهم خلال اليومين الماضيين، حتى الى أماكن نزوحهم في مدينة الاسماعيلية، قال إن «رجال الدين تقع عليهم مسؤولية كبيرة في إرساء الخطاب العصري المستنير، وإن التنوع بين الإنسانية لا يعني الاختلاف بين الهوية الوطنية والمنهج الحضاري العصري، فهو ينشئ الحوار، ويكون في دائرة من التعاون والتكامل والاستجابة لأسس وثقافة الحوار». وضرب بابا الأقباط المثل بمسيحيي مصر، قائلاً: «في مصر، وبعد أحداث فض (اعتصام) رابعة العدوية وحرق الكنائس فى آب عام 2013، عاشت الكنيسة هذا الحب وصنعت السلام ووقف الشباب في الكنائس المحترقة والمدمرة، وكتبوا عبارات تقول نحن نحبكم نحن نغفر لكم».

الحضور اللبناني

الحضور اللبناني بدا لافتاً في مؤتمر الأزهر؛ فعلاوة على الوفود التي تقاطرت الى القاهرة منذ مساء أول من أمس، والتمثيل الرسمي، على مستوى وزير شؤون الرئاسة بيار رفول، الى جانب رئيس كتلة «تيار المستقبل» فؤاد السنيورة، والرئيس أمين الجميّل، تصدّر القادة الروحيون اللبنانيون المشهد في المنصة الرئيسية للجلسة الافتتاحية التي اقتصرت المداخلات فيها على شيخ الأزهر والبابا تواضروس، وبطريرك أنطاكية وسائر المشرق للطائفة المارونية الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، والمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، إضافة إلى الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط.
البطريرك الراعي تحدث خلال كلمته عن مفهوم الحرية والمواطنة، مشيراً إلى أن الحرية تمنح الإنسان الكرامة، وأن المواطنة الفاعلة هي التي تعاش في الدولة المدنية التي تجمع مواطنيها من دون تمييز، في إطار من الحرية والديموقراطية.


استفاضة الراعي في الحديث عن «التجربة اللبنانية» بدت مبالغاً فيها، خصوصاً أنّ البطريرك الماروني وصفها بأنها «مثلت نموذجاً تطبيقياً للمواطنة المنبثقة من العروبة»، وأن العيش المشترك مثل لبّ التجربة اللبنانية التي «تُحلّ الوطنية السياسية محل الوطنيّة الدينيّة»، من أجل الوصول إلى تفاهم أفضل، وإقامة عالم إنساني يستطيع فيه الجميع أن يعيشوا بكرامة وحرّية وعدالة وسلام، مؤكداً أن لبنان أوجد عبر الميثاق الوطني شكلاً للمواطنة بحيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات ويتشاركون في المواطنة.
ورأى أن هذا العيش المشترك هو جوهر المشروع الحضاري الذي التقى فيه المسلمون والمسيحيون، من دون أن يذكر، بطبيعة الحال، أن تلك التجربة الفريدة أنتجت حرباً دامت ١٥ عاماً، وما زالت تعطّل حتى الآن قيام الدولة الدستورية والمواطنة الحقيقية التي ينشدها اللبنانيون. وطالب الراعي في ختام كلمته الجميع بتوحيد الجهود لتصبح عملاً مشتركاً بين المرجعيات الدينية عبر خطاب ديني يتعلق بالاعتراف بالآخر، وعلاقة الجماعات بعضها ببعض وحقها في الحرية، خاصة الحرية الدينية، لكي يواجه الدين التطرف والإرهاب ويصبح رافعة مجتمعية، بما يرفع الغطاء عمن يستخدم الدين بهدف التطرف والتعصب.
الشيخ عبد اللطيف دريان قال بدوره إن العيش المشترك والمواطنة يرتبطان في أي مجتمع بالحفاظ على ثوابت أساسية هي كيان الدولة والهوية وحكم القانون، مضيفاً أن هذه الثوابت باتت تتصدع في العالم العربي، وانعكس ذلك سلباً على العيش المشترك والمواطنة. ورأى أن الإسلام أسّس دولة المواطنة، ودعا الى الحفاظ على الضرورات الخمس، وهي النفس والعقل والدين والعرض والنسل، مطالباً بإخراج الدين من أتون الصراع السياسي وتربية الأجيال على المواطنة والسلام والعيش الواحد، وأن يعمل المسلمون والمسحيون معاً لمواجهة التطرف والإرهاب.
اما الشيخ قبلان، فقال إن كل ما يجري في دولنا، في العراق وسوريا والبحرين، يخدم إسرائيل ويصبّ في مصلحتها. وأضاف أن «علينا أن نكون في خندق واحد يمكّننا من مواجهة عصابات الإرهاب والتكفير التي شوّهت إسلامنا وهجّرت شبابنا، وشوّهت ديننا، وعلينا ألا نسقط من حساباتنا أننا مستهدفون كما استهدفت فلسطين».
وتابع قبلان في كلمته «استفيقوا أيها العرب، ولتكن تلك الصرخة من مصر دعوة مفتوحة لكل القيادات والزعامات... وفي مقدمتهم طهران والرياض، لفتح صفحة جديدة من الحوار تقطع الخلاف وتوحد الأمة».
الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، أكد خلال كلمته في المؤتمر أن مسيحيي الشرق يتعرضون لخطة ممنهجة تهدف إلى تهجيرهم وإفراغ بلادهم منهم وهم جزء لا يتجزأ من نسيجها، مشيراً إلى أن لدى المسيحيين إسهاماً كبيراً في الحضارة العربية لا ينكره إلا جاحد، مضيفاً أن الشرق الأوسط يزدهر بالتنوع، والمجتمعات الناجحة هي تلك التي تتعدد فيها الثقافات، وهو ما ينعكس على حركة المجتمع العامة من اقتصاد وسياسية.




حملة ضد مشاركة خالد الدخيل

أثارت مشاركة الأكاديمي السعودي خالد الدخيل، في مؤتمر الأزهر، اعتراضاً لدى أطراف مصرية، على اعتبار أنه "دأب على انتقاد مصر ودورها الإقليمي والمنطقة العربية، والهجوم على الرئيس عبد الفتاح السيسي"، كما قال موقع "صدى البلد"، فيما كتبت "الدستور" أنّ "حالة من الاستياء سادت المشاركين في المؤتمر بسبب مشاركة (الدخيل، الذي) يصف ثورة 30 يونيو بالانقلاب".
وفي السياق نفسه، "ناشد" مقدّم برنامج "على مسؤوليتي" (فضائية صدى البلد) شيخ الأزهر بفتح تحقيق عاجل ضد من وجّه الدعوة "لشخص يعادي الدولة المصرية". وقال إنّ الدخيل "لا يعترف" بالرئيس السيسي، مضيفاً: "مين اللى دعا الجدع ده... وازاي دخل مصر أصلاً!؟... ده أعد مجعوظ وقال علينا انقلابيين ده هزار... يفرق إيه عن عناصر الإرهاب!؟".
(الأخبار)