سيجري الكثير من المياه في نهري دجلة والفرات قبل أن يُعلن تطهير أرض الرافدين من الاحتلال «الداعشي»، وعلى الأرجح سيضطر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، إلى إعادة تجديد الموعد الذي ضربه مرتين سابقاً لنهاية تنظيم «الدولة»: الأول، مطلع أيلول الماضي حين أعلن أن عام 2016 سيشهد نهاية «داعش» عسكرياً، والثاني في نهاية كانون أول، حين عاد وصرح أن نهاية «داعش» تحتاج إلى ثلاثة أشهر.
صحيح أن الخط البياني للعمليات العسكرية يؤشر نحو اتجاه واضح وحتمي، هو إنهاء الوجود العسكري للتنظيم في العراق، بيد أن وتيرة العمليات تشي بأن الوصول إلى هذا الهدف دونه ليس فقط المزيد من الدم والجهد، بل العقبات والقيود السياسية المتصلة بحقبة ما بعد «داعش».
فالقضاء على التنظيم في العراق كان ولمّا يزل استحقاقاً تتقاطع عنده مصالح ومشاريع سياسية كبرى لا تختلف كثيراً عن تلك التي كمنت وراء مرحلة انفلاش هذا التنظيم قبل عامين ونصف العام (في الواقع هي امتداد لها) وسيطرته على نحو أربع محافظات كاملة وصولاً إلى تخوم العاصمة بغداد. آنذاك، للتذكير، «انطلقت» مطلعَ عام 2014، «الثورة العراقية الكبرى» في مدينة الفلوجة برعاية تركية - خليجية - أميركية مباشرة. وتحت شعار «مظلومية أهل السنة» كان يجرى بناء المشروعية لمخطط تقسيم العراق إلى دويلات سنية وشيعية وكردية، وهو المشروع الذي كان موضع تبّنٍّ صريح من أركان أساسية في الإدارة الأميركية في حينه، وفي مقدمتهم، نائب الرئيس جو بايدن، ووزير الدفاع تشاك هاغل. «الثورة» التي اتخذت شكل الاعتصامات المفتوحة في ساحات الفلوجة، ما لبثت، في شهر شباط، أن أخرجت المدينة ومحيطها من سيطرة الدولة العراقية، بينما كان يجري التخطيط داخل الكواليس التركية، وبإشراف مخابراتي تركي - خليجي لمشروع الاجتياح العسكري للمحافظات ذات الغالبية السنية (يمكن القول: الشمالية والغربية والوسطى التي تضم غالبية سكانية سنية) على أيدي عدد من الفصائل العراقية المسلحة التي جمعتها غرفة تنسيق مشتركة. الفصائل السبعة كانت خليطاً هجيناً من الانتماءات البعثية (جيش الطريقة النقشبندية) والإسلامية (كتائب ثورة العشرين، الجيش الإسلامي في العراق) والسلفية (جيش أنصار السنة، جيش المجاهدين) والتكفيرية (الدولة الإسلامية في العراق والشام) والعشائرية (المجلس العسكري لعشائر العراق)؛ لكنها تقاطعت جميعها عند الهدف المحدد خليجياً وتركياً، وهو إسقاط الحكومة المركزية في بغداد، بما يفتح الباب على إعادة هيكلية نظام الحكم، من دون أن يلغي ذلك طموحاتٍ خاصة أضمرها بعض الفصائل، كعودة حكم البعث بالنسبة إلى النقشبنديين وكتائب ثورة العشرين، وأخرى أكثر جموحاً بالنسبة إلى داعش، كما سيتبيّن لاحقاً.

تحول «داعش» لدى التحالف الأميركي إلى رافعة ضغط ضد محور المقاومة


وقد كان أحمد الدباش، زعيم ومؤسس «الجيش الإسلامي في العراق» الأكثر صراحة في التعبير عن جوهر المشروع الذي دُبر بليل في العاصمة التركية. فالرجل، الذي لم يسبق له أن تواصل مع الإعلام من قبل، قرّر في الحادي والعشرين من حزيران 2014، أي في خضم الغزو المسلح للمحافظات العراقية، أن يخص صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية بحوار، كان الأول له على الإطلاق، كشف فيه الأهداف الحقيقية لما يجري: أكد مشاركة الآلاف من رجاله في القتال إلى جانب داعش لاستعادة بغداد، طالب بتنحي رئيس الوزراء نوري المالكي، وبتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق حكم ذاتي يتقاسم فيها السنة والأكراد والشيعة موارد الدولة بالتساوي. ويروي عارفون كيف أنه بعد سقوط محافظة نينوي والأنبار ووصول الزحف المسلح إلى تخوم سامراء، عاصمة محافظة صلاح الدين، اتصل أحد كبار القادة في الجيش العراقي هناك ببغداد ليستعلم عن الوضعية العامة لما يحصل. جاءه الجواب من جهات نافذة في الحكم ومقربة من نائب الرئيس السابق، طارق الهاشمي، أن «اللعبة قد انتهت والانقلاب يسير نحو الحسم»، مشيرةً عليه بعبثية القيام بأية حركة اعتراضية لمواجهة ما يحصل.

«الحساب الطويل والثقيل»

لكن، على خطٍ موازٍ للغزو المسلح، كان «داعش» ينفذ مشروعه الخاص، الذي دبّره بليلٍ أيضاً، فنشِطَ بسرعة وبطشٍ دمويين لإزاحة كل الشركاء عن المسرح والاستفراد بالميدان من دون منازع. وفيما كانت بياناتٍ تصدر عنه تتوعد الفصائل الأخرى بوضوح وتحذرها من مغبة منازعته على السلطة في المناطق «المحررة»، كانت عناصره تنفذ إعدامات ميدانية بحق رفاق السلاح في الفلوجة وتكريت والدور والموصل وغيرهم، ممّن سوّلت لهم أنفسهم الحضور الميداني المسلح بذريعة الشراكة في نظم الأمور. وقد كان «داعش» حاسماً في الاستئثار بالأمر حدّ عدم قبوله، ليس فقط برفع صور لشخصياتٍ أو رموز من الفصائل الأخرى، بل حتى بحياد «شركائه» السابقين، إذ أصر على حصول البيعة منهم لأميره البغدادي. وهذا ما حصل فعلاً بالنسبة إلى كثير من قيادات الفصائل الأخرى، حتى تردد أن عزة الدوري نفسه، نائب الرئيس العراقي السابق وزعيم جيش النقشبندية، أدّى البيعة تقيةً حفاظاً على روحه وأرواح عدد من قيادات جيشه الذين زجّ بهم «الدواعش» في السجون.
ولم يصبر «داعش» كثيراً حتى يكشف عن أفق مشروعه الحقيقي. ففي حين كانت البيانات والمواقف التي صدرت عن بقية الفصائل وقياداتٍ فيها (الدباش والدوري مثلاً) تتحدث عن الزحف نحو بغداد للإطاحة بحكومة المالكي، خرج المتحدث باسم «داعش»، أبو محمد العدناني ببيانه الشهير (12 حزيران 2014) الذي عاهد فيه باستمرار الزحف نحو النجف وكربلاء لتصفية «الحساب الطويل والثقيل». وفيما كانت الدول الراعية للغزو المسلح تعمل على هندسة التثمير السياسي لحركتها الانقلابية من خلال «المؤتمر التمهيدي لثوار العراق» الذي عقد في العاصمة الأردنية (15 تموز 2014) وتمحور حول إعادة هيكلة العملية السياسية في العراق بما يتساوق ورؤية «الثوار»، كان «داعش» يمضي قدماً في مشروعه الخاص الذي تمثل بالتحضير لإعلان الخلافة التي أُعلنت فعلاً بعد نحو أسبوعين (29 تموز 2014). وفي السياق، لم يَفُت التنظيم العمل على انتزاع الاعتراف به من عرّابي الغزو المسلح، وهو ما حصل على وجه الخصوص مع الأتراك الذين فاوضوا التنظيم لأسابيع، فيما كان 48 من دبلوماسييهم محتجزين لديه في قنصلية الموصل، إلى أن توصل الجانبان إلى صيغة تكرس التعاون المتبادل بينهما، فكان أن أُطلق سراح الدبلوماسيين الأتراك (20/9/2014)، ليصحبوا الرهائن الوحيدين الذين يخرجون سالمين من الأسر «الداعشي» على الإطلاق. وشملت صيغة التعاون غير المعلنة آلية تنسيق تحفظ المصالح التركية في مقابل تسهيل أنقرة خدمات ذات طابع لوجستي لـ«داعش»، تشمل تمرير العناصر والسلاح، ومعالجة الجرحى وشراء الواردات النفطية الداعشية بثلث سعرها السوقي.

الخطة باء

وهكذا تحولت سيطرة «داعش» على المحافظات العراقية ذات الغالبية السنية أمراً واقعاً من خارج الحسابات الأولية للدول الراعية للانقلاب، فما كان من هذه الدول إلا أن انتقلت إلى الخطة باء، وهي توظيف الكيان الإرهابي الناشئ في سياق ابتزاز بغداد على محاربته. وكان بديهياً أن هذا الابتزاز لم يطاول أربيل، الحليف الطبيعي للأميركيين، التي تدخلت واشنطن سريعاً لإنقاذها من المد «الداعشي» نحوها، فشنت، بدءاً من 7 آب 2014، وعلى مدى أسابيع مئات الغارات لوقفه من دون أن تطلب أي فاتورة سياسية مقابل ذلك.
أما بغداد، فكان لها حساب آخر. وقد تنوعت المصالح/ المطالب إزاءها بقدر تنوع الحلفاء الموضوعيين الجدد لـ«داعش». لكن الثابت فيها كان يراوح بين إعادة تكوين نظام الحكم المركزي بما يكفل نفوذاً طاغياً للمكونات الحليفة لواشنطن وأنقرة والرياض، وبين إضعاف هذا الحكم لمصلحة طرح الأقلمة الذي يعطي هذه المكونات أقاليمها الخاصة بها ويضعها في مواجهة الإقليم المحسوب على طهران.

الاعتبار الوحيد الذي فرض توقيت معركة الموصل كان الانتخابات الأميركية

وفي بؤرة هذه المصالح، كان للولايات المتحدة أجندة إضافية محددة، عملت على تحقيقها منذ اليوم الأول: العودة العسكرية إلى العراق، إما عبر اتفاقية رسمية مع حكومة بغداد، وإما بقوة الأمر الواقع الذي تفرضه ضرورة محاربة «الإرهاب الداعشي». الرئيس الأميركي باراك أوباما، أجاد التعبير عن هذه «الضرورة» في خطابه بتاريخ 10 أيلول 2014 حين أعلن أن «داعش يمثل تهديداً لشعبي العراق وسوريا والشرق الأوسط عموماً... وإذا ظل من دون كابح، فإن هؤلاء الإرهابيين يمكن أن يشكلوا تهديداً أكبر يتخطى تلك المنطقة، بما في ذلك الولايات المتحدة». في الخطاب نفسه، أعلن أوباما أنّ «أميركا ستقود تحالفاً عريضاً لرد هذا التهديد»، كاشفاً عن إيفاد 475 عسكرياً آخر إلى العراق، أضيفوا إلى مئات كانوا قد أرسلوا قبلهم بأسابيع بحجة حماية السفارة الأميركية.
لكن رياحاً هبّت بما لم تشتهِ سفن التحالف الدولي. ففي الوقت الذي كانت القوات العراقية النظامية، ومن ورائها القيادة السياسية، تعيش حالة انعدام توازن، تدخلت طهران بشكل سريع وحاسم، من خلال حلفائها المحليين، لبلورة بديل عراقي لمحاربة «داعش»، تحت سقف هدف سياسي واضح هو عدم السماح بسقوط حكومة بغداد بفعل الضغط «الداعشي»، أو ابتزازها لانتزاع تنازلات تتعلق بإعادة تكوين السلطة أو باتفاقية تنظم عودة القوات الأميركية إلى بلاد الرافدين.

الصراع على التحرير

ويمكن القول إن المواجهة الميدانية التي انطلقت منذ حزيران 2014 ضد «داعش» في العراق، تظللت على امتداد هذه الفترة بمواجهة سياسية كانت تجرى في ميدان آخر، مادتها صراع المصالح والمشاريع الآنف ذكره: بين تحالفٍ ضم «الحشد الشعبي» ورعاته من القوى السياسية والدينية العراقية وكذلك إيران وحليفها اللبناني الأقوى (حزب الله)، وتحالفٍ مضاد، ضم تركيا والسعودية وقطر والولايات المتحدة وقوى عراقية موالية من بقايا «الثورة». وفي حين جعل التحالف الأول – الذي لم يكن في الواقع سوى انعكاس لمحور المقاومة الأوسع في المنطقة - هدفه المحوري القضاء على «داعش» من دون تقديم أي أثمان سياسية مقابل ذلك، سعى التحالف الثاني - الذي صار عملياً عراباً لـ«داعش» - لإكساء التنظيم الإرهابي دوراً وظيفياً تمثل بتحويله إلى رافعة ضغط ضد محور المقاومة عموماً، والحكومة العراقية خصوصاً، وضبط إيقاع قتاله على أساس تثمير هذا الدور.
وهكذا حصل أنه وفقاً لهذا الإيقاع بالضبط، انحصر تدخل التحالف الدولي (إقرأ: الأميركي) في الأشهر الأولى التي تلت الاجتياح «الداعشي»، بالعمل على لجم امتداد التنظيم نحو المناطق الكردية في أربيل ومنع سيطرته على سد الموصل، وذلك من خلال شن نحو 2000 غارة جوية بين شهري آب وتشرين أول فقط (نعم كانت هناك مساعدة شكلية للأيزيديين، وصلت بعد أن كان «داعش» قد فتك بمن فتك من أبناء هذه الطائفة، وهجر الآخرين إلى الوديان والجبال). بعد ذلك، بقي العالم يسمع عبر النشرات الإخبارية عن مئات من الغارات تنفذها مقاتلات التحالف، دون أن يقترن ذلك بتحرير شبر واحد من الأراضي العراقية، غير الكردية. وكانت الرمادي هي المدينة الوحيدة التي شارك طيران التحالف بفعالية في تحريرها/ تدميرها، وحصل ذلك فقط لأن سقوطها بأيدي «داعش»، الذي جرى في أوج «التدخل الدولي»، أحرج الإدارة الأميركية وفضح الفعالية الجوفاء للتحالف الذي تقوده. بيد أن تحرير/ تدمير الرمادي لم يغطّ على الحقيقة المسرحية للتحالف الأميركي، الذي لم يُسجل له أي إنجاز تحريري فعلي، في وقتٍ كانت وحدات «الحشد» تزحف من منطقة إلى منطقة وتحرر عشرات آلاف الكيلومترات بإمكانات متواضعة، مدعومة بخبرات وأسلحة إيرانية أقل تواضعاً. بل إن معلومات مؤكدة تفيد بأن طائرات التحالف تدخلت غير مرة في خضم عملياتٍ لـ«الحشد» في أكثر من منطقة فشنت غارات الهدف منها عرقلة تقدم قوات «الحشد»، أو نفذت إنزالات تتضمن معونات لوجستية لـ«داعش».

وليس أدل على التوظيف السياسي لـ«داعش» في أجندة التحالف الأميركي من معركتي تحرير الفلوجة والموصل. ففي الأولى، تأجلت عملية التحرير عاماً كاملاً، لا لشيء، سوى لأن دول التحالف وضعت خطاً أحمر دون تحرير المدينة على أيدي «الحشد»، وما همّها أن تبقى تحت سيطرة «داعش» في المقابل. أما الثانية، فإن الاعتبار الوحيد الذي فرض توقيتها، في ظل عدم الجهوزية الميدانية الكاملة للقوات العراقية، كان الاحتياجات الانتخابية للحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية الأميركية. فالحزب المذكور استنسب، ببساطة، أن يكون تحرير الموصل ورقة انتخابية يجرى تعويمها للقول إن إدارة الديموقراطيين تحقق إنجازاتٍ في محاربة الإرهاب، في مقابل خطاب المرشح دونالد ترامب الذي كانت «محاربة الإرهاب الإسلامي» أشبه بلازمةٍ فيه. وللتذكير، فإن الغطاء الجوي الذي تعهد الأميركي تقديمه لعمليات «قادمون يا نينوى»، ما لبث أن توقف بشكل شبه كلي بعيد الانتخابات الأميركية، ثم عاد واستؤنف بوتيرة شكلية لاحقاً بما يحفظ نوعاً من المراوحة في انتظار توجهات الإدارة الجديدة. ويؤكد عارفون أن الأجندة الأميركية والتركية لتحرير نينوى تقدم ترتيبات ما بعد التحرير على التحرير نفسه، علماً أن هذه الترتيبات تتمحور حول صيغٍ لتكريس نفوذٍ تركي وأميركي في المحافظة يجعلها أقرب إلى أنقرة وواشنطن منها إلى بغداد.
وفي انتظار جلاء التجاذبات السياسية التي تحكم وتيرة عمليات «قادمون يا نينوى»، يبقى الرهان على مفاجآت «الحشد الشعبي»، الذي أقحم نفسه عنوةً في العمليات، رغم الاعتراض الخليجي - التركي - الأميركي، وأخذ على عاتقه الجزء الأصعب منها، المتمثل بالتوغل الصحراوي لمحاصرة الموصل من الغرب وقطع التواصل البري بينها والحدود السورية. وهو بذلك، كما يجزم مراقبون، أفشل جانباً أساسياً من المخطط الأميركي الذي كان يراهن على «إزاحة» داعش من الموصل و«تكديسه» في سوريا، ربطاً بمشروع مستقبلي هناك يتصل بوضعية الحدود بين دمشق وبغداد.




أجندة العبادي




قبل أن يقرّر رئيس الوزراء العراقي التدخل في أجندة عمليات «الحشد الشعبي»، دأب الأخير على تحديد جدول أولوياته بشأن المناطق المقررة استعادتها من «داعش» بناء على اعتبارات إنسانية وعملياتية بالدرجة الأولى. وغالباً ما كانت تتحكم اعتبارات مثل حجم التهديد وخطورته الداهمة وقدرات «الحشد» المتاحة على إزالته بترتيب هذه الأولويات. فمثلاً، مع محاصرة الزحف «الداعشي» مدينة سامراء، كانت الأولوية إعادة فتح طريقها وتأمينها، وبعدها تحولت الأولوية إلى فك الحصار عن مدينة آمرلي التي كانت على وشك السقوط، ومن ثم لفتح طريق بغداد ــ كركوك التي تمر في وسط محافظة ديالى. وهكذا حصل مع جرف الصخر الواقع على خاصرة الطريق إلى كربلاء، ومن بعدها مدينة بلد التي تعرضت لحصار زاحف. وفي وقت لاحق انتقل «الحشد» إلى أخذ زمام المبادرة، فنفذ عدة عمليات كبيرة لتحرير ما تبقى من ديالى (في منطقة المقدادية) ومدينة تكريت مع محطيها وجزيرة الثرثار في صلاح الدين وصولاً إلى التخوم الشمالية للفلوجة. عندها تدخل العبادي، مستجيباً للضغط الخليجي والأميركي بوقف العمليات وتحويلها إلى منطقة بيجي شمال صلاح الدين. ومع الانتهاء من بيجي، أعيد طرح استحقاق الفلوجة على الطاولة، فكانت التسوية التي قبل بها «الحشد» وتقتضي بعدم دخوله المدينة واقتصار دوره على محاصرتها. ومن بعد الفلوجة اشتغل «الحشد» على تحرير جزيرة سامراء، على أن تكون الحويجة هي المحطة التالية في جدول العمليات، نظراً إلى أهميتها النفطية والجغرافية من جهة، والأكلاف البشرية الكبيرة التي يستدعيها تثبيت خطوط التماس فيها مع «داعش» من جهة أخرى. لكن العبادي تدخّل مرّة أخرى، وبإملاء أميركي اقتضته الضرورات الانتخابية للديموقراطيين، مُحِّولاً بوصلة العمليات نحو الموصل، في وقتٍ لم يكن الأمر في حسبان القوات المعنية. الإملاء الأميركي نفسه (المدعوم تركياً) كان يريد إقصاء الحشد عن المعركة لأسباب تتصل بترتيبات ما بعد التحرير، لكن الأخير فرض نفسه على محور تلعفر وفق معادلة تخدم الجهد الميداني الرئيسي في مدينة الموصل من جهة، وتعطل مخطط نقل «داعش» إلى سوريا من جهة ثانية، ولا تكسر العبادي - القائد العام للقوات المسلحة - أمام الأميركيين من جهة ثالثة.