تتهم أغلب رموز المعارضة البحرينية المواقف الدولية (والغربية على وجه الخصوص) بأنها تتغاضى عن جرائم النظام بحق نشطاء الحراك المعارض، وتبدي عدم تعويلها على اتخاذ المجتمع الدولي خطوات من شأنها أن تردع نظام المنامة عن ارتكاب المزيد من الجرائم بحق الشعب. لكن لتشريح بعض أسباب الانحياز الغربي إلى النظام البحريني، وغيره من الأنظمة الخليجية العائلية الأخرى، لا بد من البحث وتتبّع الآلية التي تضمن العلاقة بين هذه الأنظمة القمعية والغرب بمؤسساته الرسمية والخاصة.
ويشرح هذا التقرير كيف يروّج النظام البحريني لروايته حول ما يحصل في البلاد في كل من أوروبا والولايات المتحدة منذ ما قبل شباط 2011.
في كانون الثاني عام 2015، أصدر "مرصد الشركات في أوروبا ــCorporate Europe Observatory" تقريراً بحثياً مفصّلاً عن شركات العلاقات العامة الأوروبية التي تعمل لمصلحة الأنظمة القمعية في مختلف دول العالم. يذكر التقرير أن النظام البحريني تعاقد مع سبع شركات على الأقل لتحسين صورته وبثّ دعاية عبر وسائل إعلام أوروبية وعالمية هدفها تشويه الحراك السلمي إعلامياً واتهامه بالارتهان للخارج وممارسة العنف.
نشاط هذه الشركات في أوروبا أكثر سرية من الولايات المتحدة
الشركات التي يذكرها التقرير هي:Bell Pottinger, Protection Group International, Meade Hall & Associates, G3, Big Tent, Dragon Associates, M&C Saatchi. لعلّ أخطر تلك الشركات وأهمها هي الشركة البريطانية "بيل بوتنغر" التي أسسها اللورد تيم بيل، مدير حملة رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة مارغريت تاتشر في الثمانينيات (لدى الشركة قسم خاص اسمه "قسم الأزمة" متخصص في ما يُسمى خدمات "قضايا الدفاع وإدارة السمعة").
وفي مقابلة مع صحيفة "ذي غارديان" البريطانية تعود إلى عام 2013، يقول مؤسس الشركة: "إيماني العميق بأن عدداً قليلاً من الكلمات، وصورة بصرية قوية، بإمكانها تغيير طريقة تفكير الناس". وعن طريقة عمل الشركة ونفاذها إلى وسائل إعلامية بريطانية كبيرة وسياسيين (ولا سيما في حزب المحافظين)، فقد كُشفَت عبر فيديو سُجِّل سراً لمقابلة أجراها صحافيون من "مكتب الصحافة الاستقصائية" مع مديرين من "بيل بوتينغر" في تموز عام 2011.
ويكشف تقرير "مرصد الشركات في أوروبا" أن شركة "بيل بوتينغر" قدمت خدمات للنظام البحريني تضمنت تأسيس مركز إعلامي في المنامة للاتصال بالصحافيين الأجانب وإرسال تقارير عن "التعامل الإنساني" للنظام مع المتظاهرين، إلى جانب كشف وتعقب الناشطين المعارضين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ودسّ معلومات ترويجية كاذبة ومغلوطة عن النظام في موقع "ويكيبيديا".
من جهة أخرى، برغم أنّ نشاط جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة في أوروبا أكثر سرية منه في الولايات المتحدة (إذ يجبر القانون الأميركي "جماعات اللوبي" على التصريح عن كل العقود والنشاطات التي تقوم بها مع أي جهة أجنبية، وتُعرض للعامة للاطلاع عليها)، فإنّ بيانات الشركة البريطانية تُظهر أنها تعاقدت مع شركة "كورفيس للاتصالات ــQorvis Communications LLP" الأميركية (وثيقة رقم 1) في آب عام 2010 على سبيل التجربة. وبناءً على ذلك، قدمت الشركة خدمتين ــ وفق بيانها نصف السنوي (وثيقة رقم 2) ــ للنظام البحريني في 5 أيلول 2010، هما عبارة عن توزيع خطاب الملك حمد بن عيسى آل خليفة على معظم وسائل الإعلام الأميركية الكبيرة، إلى جانب صياغة تقرير عن "خلية الـ 23" الشهيرة التي ادّعى النظام تفكيكها، وقد تضمّن أسماء رموز من المعارضة البحرينية، من بينهم حسن مشيمع وسعيد الشهابي.
مع انتهاء مدة العقد مع الشركة عبر "بيل بوتنغر"، تعاقد النظام (وثيقة رقم 3) عبر وزير خارجيته خالد بن أحمد آل خليفة، في بداية نيسان 2011، مباشرةً مع "كورفيس" الأميركية. وفق البيانات، نفّذت الشركة (وثيقة رقم 4) بين نيسان وتشرين الأول 2011 نشاطات دعائية للنظام البحريني، ووزعت تقارير إعلامية عن "التفاؤل" السياسي في البحرين في ظل اقتراب انعقاد مؤتمر الحوار الوطني ونية رئيس الحكومة "تطبيق" الإصلاحات المنبثقة من المؤتمر في وقت لاحق، وإعلان "بنك البحرين" ارتفاع نسبة النمو في البلاد 3% في عام 2011، وزيارة ولي العهد للبيت الأبيض واجتماعه بباحثين وأكاديميين وكتّاب مشهورين في صحف أميركية كبيرة، إلى جانب الاجتماع بأعضاء في الكونغرس بغرفتيه، للحديث مع المشرّعين الأميركيين بخصوص البحرين.
اللافت أن "كورفيس" كانت تستعمل مصطلحات خفيفة في البداية في تقاريرها عن "الخلايا التآمرية" (التي كان النظام يتحدث عنها بصورة متواصلة)، فترِد عبارة "التخطيط لاستعمال العنف لإطاحة الحكومة"، وهو ما سيتطور في بيانات لاحقة ليصل إلى استعمال مصطلح "الإرهاب" عند الحديث عن المعارضة.
في بيانات "كورفيس" بين شهري أيار وأيلول 2012 (وثيقة رقم 5)، تستمر عملية تغذية الموقع الأميركي PR Newswire (الذي يوزع التقارير الإعلامية والقصص الإخبارية على وسائل الإعلام الأميركية) بتقارير الرواية الرسمية للنظام البحريني، لكن يظهر أن حكومة المنامة أوفدت ناطقة باسم وزارة إعلامها تدعى لمى بشمي إلى واشنطن للاجتماع بصحافيين وأكاديميين مشهورين، مثل أندرو باراسيليتي، رودولف بل، من "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" الذي يشرف على تنظيم "حوار المنامة" منذ عام 2009، إضافة إلى سايمن هندرسون من "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى".
وتُظهر بيانات الشركة بين حزيران وتشرين الأول 2013 (وثيقة رقم 6) أنّ "كورفيس" نشرت تقارير عن احتفال سفيرة البحرين السابقة لدى واشنطن، هدى عزرا نونو، بعيد الاستقلال الأميركي، ونشرت لها مقالاً في موقع "The Hill" التابع للكونغرس. أحد التقارير الإعلامية التي نشرتها الشركة للنظام كان إعلان افتتاح "مجموعة كوهين الدولية" (أسسها ويديرها وزير دفاع أميركا الأسبق وليام كوهين 1997 ــ 2001) فرعاً لها في البحرين، وهي شركة تقول على موقعها الإلكتروني إنها ساعدت شركات أميركية في الحصول على استثمارات وعطاءات في دول خليجية، منها البحرين، ووضعت خطط مشاريع خليجية عدة، من بينها "مشروع إنشاء خط لنقل الغاز الخليجي إلى أوروبا".

بين نيسان وأيلول 2015 (وثيقة رقم 7) ، قدمت الشركة لمصلحة النظام خدمة واحدة تمثلت في توزيع تقرير إعلامي واحد عنوانه «اعتقال المشتبه بهم بالتفجير الإرهابي الذي قتل شرطيين في البحرين، واعتقال آخرين لصلتهم بحزب الله والحرس الثوري الإيراني».
وبين تشرين الأول 2015 وآذار 2016 (وثيقة رقم 8)، نشرت «كورفيس» تقريراً عبرPR Newswire حول «النشاط الإرهابي» في البحرين، وذلك في استكمال لسردية النظام بوصم المعارضة السلمية بالإرهاب.
وفي أحدث البيانات المنشورة في أيلول الماضي حول نشاط «كورفيس» لمصلحة النظام بين نيسان وأيلول 2016 (وثيقة رقم 9)، يظهر أن حكومة حمد آل خليفة اضطرت إلى نشر تقرير تجميلي عن «التزامها» حقوق الانسان في البحرين، مع تقريرين آخرين للردّ على انتقادات وزارة الخارجية الأمريكية بسبب قرارها حظر «حركة الوفاق» المعارضة وقضية الشيخ علي سلمان.
أما في نيسان 2014، فتعاقد النظام البحريني (وثيقة رقم 10) عبر وكيل وزارة خارجيته (عبد الله عبد اللطيف) مع شركة DLA PIPER LLP الأميركية للاستشارات القانونية. وتفيد بيانات هذه الشركة (وثيقة رقم 11) بين آذار وأيلول 2015 بأن اجتماعات عُقدت مع مسؤولين في وزارتي الخزانة والخارجية الأميركيتين حول «قضايا تؤثر في جهود مكافحة الإرهاب في البحرين».
في آخر بيانات DLA PIPER حول خدماتها لمصلحة النظام بين أيلول 2015 وشباط 2016 (وثيقة رقم 12)، يظهر أن الشركة استمرت في الترويج لادعاءات «جهود الحكومة البحرينية في مجال مكافحة الإرهاب»، مع ملاحظة أن الشركة دفعت في تشرين الثاني 2015 مبلغ 8.163 دولار أميركي لشركة أخرى تدعى James Mintz Group، المتخصصة في مجال التحرّي عن المنظمات والأفراد.
يظهر من البيانات والوثائق السابقة أن نظام آل خليفة سعى منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة الشعبية السلمية إلى إقناع العالم ــ ولا سيما الغرب ــ أن الأمور على ما يرام في البحرين. واستمرت – ولا تزال عبثاً - عملية تلميع وتبييض صورة النظام وممارساته لسنوات أمام وسائل الإعلام العالمي.
لكن الخلاصة التي يمكن الخروج بها هي أن النظام منذ البداية كان يستميت في مساعيه إلى وصم الثورة بالعنف، وصولاً إلى اتهامها بالإرهاب. كل ذلك والشعب مصرّ على أن النضال السلمي خياره الوحيد الذي يتمسك به وسيبقى كذلك، رغم الاستفزاز المتمادي، الذي اتّخذ مؤخراً نمط إصدار أحكام الإعدام بحق الناشطين السلميين وتنفيذها فوراً.