لا أعلم لماذا كانت جدتي تحتفظ بالكثير من "الكراكيب" في خزانة الحائط القريبة من مكان جلوسها الدائم، كل ما كنا نعلمه أن تلك الخزانة كانت مغلقةٌ على نحو شبه دائم، لكن مع هذا، كانت جدتي تطل عليها يومياً: مرةً في الصباح، ومرة عند المساء. قد يظن القارئ هنا أنني أكتب هذا التفصيل كي أشد انتباهه، لكن الحقيقة هي انها كانت تفعل ذلك يومياً، كنوع من صلاة.
أختي التي تكبرني بعامين، شاهدت ذات مرة، وبعد رحلةٍ مدرسية إلى إحدى المناطق البعيدة، كنيسةً لأول مرةٍ في حياتها، وسمعت كلمة "أيقونة" أو "أونة" كما تلفظ بعامية أهل المنطقة، واعتقدت أن جدتي تذهب إلى خزانتها التي تعلق فيها "أيقونات"، لتصلي للمسيح بحسب ما قالت. أمي التي ضحكت بخجلٍ على عادتها وهي تسمع تلك الحكاية المتخيلة الطفولية، قالت إن جدتي تضع أشياء في الخزانة، لكنها بعيدةٌ كل البعد بالتأكيد عن المسيح والعبادة.
وافقنا والدتي على الفكرة. فلماذا تحتاج جدتي أن تتعبد في الخفاء ما دامت تصلي "جالسة" أمامنا كل يوم خمس مرات؟ شقيقتي خفضت صوتها كثيراً وهي تقول: معقول ستي مسيحية ومخبية علينا كل هالسنين؟
لم يطل هذا النقاش طويلاً، إذ إن جدتي التي نعرف جميعنا معظم صديقاتها، فاجأتنا يوماً بامرأة تسأل عنها لا نعرفها. كان يبدو على المرأة انها من خارج المخيّم، بحسب ثيابها، او هكذا اعتقدنا. جدتي، التي لا تعرف الابتسام كثيراً، تغضن وجهها أكثر حين ابتسمت وهي تسلّم على المرأة التي عرفنا أن اسمها "آنجيل". طار قلب شقيقتي حين سمعت الاسم. ركضت ناحيتي وهي تشدني إلى جانب من المطبخ القديم لمنزلنا: قلتلك مسيحية، هاي ستك مسيحية، مش قلتلك؟ شفتي اجت عندها صاحبتها المسيحية اللي متلها. أنا لم أكن قد سمعت بالاسم سابقاً، سألتها: طيب وبركي ما كان الاسم مسيحي؟ يعني مين قلك إنها مسيحية؟
كانت أمي هي الحكم في هذه القضية. أخبرتنا أمي، التي كانت تطبخ شوربة العدس على الطريقة الفلسطينية التقليدية بالعدس الأحمر المجروش (وبالتأكيد الذي لا توزعه الأونروا) أن أنجيل مسيحية فلسطينية تسكن مخيّم الضبية، الذي يقع في المنطقة الشرقية من بيروت. وقالت لنا إن والدتها تعرفت إلى آنجيل أثناء الخروج الأول من فلسطين. كانت آنجيل لا تزال ممرضةً صغيرة وجدتي زوجةً لرجلٍ قاسٍ يعمل في التهريب. آنجيل ترافقت وسودة، التي لفت نظرها اسمها كثيراً، سودة هي الأخرى لفت نظرها اسم آنجيل؛ أصبحتا صديقتين على الرغم من قلة كلامهما معاً، فهما الاثنتان كانتا لا تجيدان الكلام ولا تحبذانه. كانتا تجلسان – بحسب والدتي، التي لا تزال تطبخ شوربة العدس- لساعاتٍ طوال تنظران إلى فلسطين من حيث هما، اي من الخيم التي نصبت لهما على الحدود اللبنانية الفلسطينية.
رحلت آنجيل إلى مخيم الضبية حيث سكن أهلها، وسكنت سودة مع زوجها في مخيم برج البراجنة، أنهت أمي "الطبخة" والقصة في آنٍ واحد، وذهبت لتعد شيئاً لم نعرفه ولم تنسَ أن تنهرنا كي نهرع للدراسة بدلاً من تضييع وقتنا في أحاديث لا تفيد. شقيقتي وأنا حاولنا استراق السمع لحديث جدتي وآنجيل، وفعلاً اقتربنا بكل بطء من باب الغرفة المفتوح، لم يكن هناك صوتٌ أبداً، كان فقط صوت التلفاز أعلى من أي شيء، اعتقدنا أنه ليس من أحدٍ هناك، لذلك اقتربنا أكثر وأكثر، كنا نريد أن نعرف ما الذي يحصل في الداخل، ظهرنا على الباب، لنجد جدتي وآنجيل تنظران إلى التلفاز ودون أي كلمة. شاهدتنا جدتي لحظتها، ابتسمت في واحدةٍ من المرات القليلة في حياتها وقالت لأنجيل: بنات ابني. آنجيل نظرت ناحيتنا، ابتسمت ابتسامتها القصيرة هي الأخرى وقالت: حلوات!