ما إن ارتفعت شمس العاشرة عن شرق السماء، حتى بدأ الجليد المكدّس فوق الطريق الدولية بين دمشق وبيروت، في «وادي القرن»، بالنزف أنهاراً صغيرةً من الماء الصافي على الاسفلت الجديد، في ذلك الصباح الربيعي، بعد ليلٍ مثلجٍ وبارد.
وتكاد حبّات الماء الملتصقة بأغصان التفاح العارية في يابوس، تسرق وهج الضوء من الجبال البيضاء، في الطريق من مفرق ميسلون إلى قرية التكِّيِة، أولى قرى وادي بردى، الخاضعة لسيطرة الدولة السورية.
هنا على حاجز الكتيبة الانتحارية التابعة للحرس الجمهوري، ومثله على حواجز الجيش الأخرى، مئات الرجال والنساء والأطفال، تركوا بيوتهم في قرى الوادي، يحملون معهم ما تيسّر من جنى العمر وحاجيات النزوح المؤقت، بعد اشتداد المعارك بين الجيش والمجموعات المسلّحة في بعض القرى، واستمرار مخاض عمليّة التسوية المرجوّة.
ومع أن قرى برهليا ــ كفر العواميد ودير قانون وكفير الزيت والحسينية وسوق وادي بردى، سلّمت أمرها للدولة السورية خلال الأيام الماضية، ورفعت راية البلاد فوق المباني الرسميّة وسلّم عددٌ كبيرٌ من المسلّحين المحليين أنفسهم للجيش، إلّا أن الدخول إلى الوادي يقع على «عاتق الزائر الشخصي»، لأن «لا شيء مضمون مع المسلحين، بوجود عناصر غريبة وجماعات تكفيرية»، كما يقول أحد ضباط الجيش المعنيين. العبارة كافية لينزع الزائر من رأسه فكرة الغوص أكثر في الوادي.

بردى أو «paradise»

على كتف سلسلة جبال لبنان الشرقية وسفح جبال القلمون، يقع الخزّان المائي الجوفي الأكبر للشام في وادي بردى الذي يحضن نبع عين الفيجة، رئة دمشق المائية. وليس معروفاً تاريخ تفجّر هذا النبع، إلّا أن بقايا الأقنية الرومانية في المنطقة تشكّل دليلاً على استفادة الرومان من هذا المصدر المائي الاستراتيجي، الذي شكّل اكتشافه، تاريخياً، أحد عوامل قوّة الشام في مواجهة التصحّر ومدّ البادية شمالاً. وفي بدايات القرن العشرين، تمكّن السوريون من ربط دمشق بعين فيجة عبر نفقٍ مائي، وجُمعت المياه في بركتين على أطراف المدينة، ووُزّعت القنوات بين البيوت في نظام ريّ سابق لعصره. وفي عام 1981، طوّرت الدولة المشروع عبر نفقٍ مائي جديد يصل طوله إلى نحو 14 كلم، بقوّة دفقٍ تصل حتى 10 أمتار مكعّبة في الثانية.
من حواضر البيت، يفرش أبو محمود سفرة الصباح لزوّاره، لبنة ماعز من إنتاج قطيعه الصغير، وصعتر مجمّع من التلال الملوّنة المحيطة بالبيت، و«مكدوس» غنّي من باذنجان الحديقة وحبات الجوز من الشجرة الضخمة في البستان القريب. وبيت أبو محمود، ذي العمارة الجبلية القديمة، نموذجٌ عن بيوت قرى الوادي التي لا يُضطر أهلها إلّا إلى شراء القليل من الحاجيات المصنّعة من السوق، مكتفين بما تمدّهم به جنّة الوادي الخضراء المحيطة بالنبع العذب. الفلّاح ذي السحنة السمراء، واليدين القاسيتين، يشكر ربّه مرّات عديدة، لأن التكيّة، بلدته الصغيرة، حيّدت نفسها عن الحرب، فتحولّت البيوت التي كانت تفرغ شتاءً من سكّانها، إلى مضافات تتجمّع فيها عشرات العائلات الهاربة من زحمة الموت في القرى المجاورة. ووَصْفُ وادي بردى بالجنّة ليس وصفاً مجازيّاً فحسب، بل يعتقد كثيرون في دمشق أن كلمة بردى ذات الأصول الآرامية، هي أم كلمة «paradise»، أي الجنّة باللاتينية، حيث إنها أرضٌ «تجري من تحتها الأنهار»، وينضح منها العسل الموزّع في قفار نحلٍ، قلّما تجد بيتاً يخلو منها.
كلّ هذا النعيم، لم يكن سبباً كافياً لتبقى الحرب بعيدة عن الوادي، بل ربّما تحوّل النعيم لعنة على الوادي ودمشق معاً، حالما اكتشف المسلّحون الذين ارتبطوا بدايةً بالسعودية وقطر في الوادي، أن القبض على نبع عين الفيجة يُعطِّش دمشق، عاصمة بلادهم، انتقاماً من «النظام» في «ثورة الحريّة»!

لا خطر على مياه النبع

ما إن تفجّرت الأزمة السورية، حتى انخرط عددٌ من أبناء قرى بردى في أعمال التمرّد ضد الدولة، وسريعاً حمل جزءٌ منهم السلاح، وبدأ بمهاجمة مواقع الحرس الجمهوري التي تنتشر في التلال الشمالية الغربية المطلّة على دمشق. ومع تطوّر الأعمال العسكرية وتوسّع نفوذ المسلّحين في المنطقة، واضعين النبع تحت التهديد، طلبت «خليّة الأزمة» في مكتب الأمن القومي السوري وقتها من مجموعة خبراء في «مديرية حوض وادي بردى والأعوج» إعداد دراسةٍ عن الواقع الجيولوجي وواقع النبع، في حال قرّر الجيش استعادة النبع بالقوّة. وبحسب مصادر سورية رفيعة المستوى متابعة لملفّ الوادي، خَلصت اللجنة إلى أن خطراً تاريخياً يُحدق بالنبع، في حال قام المسلّحون بتفجيرات ضخمة عند منبعه، أو في حال تعرّضه لقصفٍ شديد، ومن الممكن أن تغور المياه في شقوق جوفية، فيتوقّف عن الدفق. وهكذا كان، حيث اضطر الجيش والدولة، على مدى السنوات الماضية، إلى مراعاة أهواء الجماعات المسلّحة في المنطقة، التي تنقّلت بين «الجيش الحرّ» و«لواء أبدال الشام» و«لواء الغرباء» و«حركة أحرار الشام» و«تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة» (جبهة فتح الشام)، وصولاً إلى تنظيم «داعش»، مستثنية الحلّ العسكري من أجندتها... على الرغم من قيام المسلحين بقطع المياه عن دمشق أكثر من عشر مرّات، للضغط على الدولة، على إيقاع المعارك في درعا والغوطة والقلمون. ومع اشتداد معارك القلمون، وبعدها معارك الزبداني ومضايا، انتقل مئات الإرهابيين الهاربين إلى الوادي، فطغت إرادة مسلّحي الزبداني المنخرطين في «فتح الشام» و«أحرار الشام» على الفصائل المحليّة، التي كيّفت نفسها مع الوقت على عدم مهاجمة الجيش وعدم التعدّي على موظّفي الدولة الذين يسكنون الوادي، مقابل وقف الجيش قصف مواقعهم.

«النصرة» عرقلت المصالحة مشترطةً الإفراج عن موقوفين خطرين لدى الدولة



إلّا أن اضطرار المسلّحين في المناطق المحيطة بدمشق إلى عقد تسويات مع الدولة، لا سيّما في الهامة وقدسيّا في الأشهر الماضية، وضع ملفّ المصالحة في الوادي على نارٍ حامية، وارتفع صوت اللجان المحليّة بالضغط على المسلّحين لعقد التسويات. وفي وقت متزامن، كان قرار استعادة دمشق قوّتها وإبعاد المسلّحين عنها ناقصاً، ما دام أمنها المائي الاستراتيجي يخضع لسيطرة جماعات إرهابية خارجة عن سلطتها. ومع شعور الحكومة بصعوبة انتزاع هذه الورقة من هذه الجماعات والجهات الداعمة لها «بالحسنى»، عمدت من جديد إلى الطلب من مجموعة خبراء جيولوجيين ومائيين تقييم الوضع. وبحسب المصادر ذاتها، فإن التقييم الأخير خَلص إلى أن دفع الماء إلى الغور في شقوق الأرض، إن حصل، يحتاج إلى تفجيرات هائلة، لكنّ غور مياه الينابيع بعوامل اصطناعية بات صعباً في هذا الزمن، وبإمكان معدّات حديثة وعمليات تقنية أن تعيد الماء إلى مجراها الطبيعي. وعلى هذا الأساس، بدأت الدولة بالضغط على المسلّحين، لتطبيق سيناريو واحد لا غير، وهو ما حصل في قدسيّا والهامة، أي عقد مصالحات مع من يرغب في تسليم سلاحه، وخروج من يريد الذهاب إلى وجهة أخرى، ولاحقاً سوْق المتخلّفين عن خدمة العلم أو الاحتياط إلى الجيش. ومع إبلاغ المسلّحين قرار الدولة في منتصف شهر كانون الأول الماضي، رفضت المجموعات المسلّحة الشروط، على عكس رغبة اللجان المحليّة التي وجدت في المصالحة باباً للعودة إلى الاستقرار. ضغوط الدولة رافقها ضغطٌ شعبي من اللجان المحليّة، فخرجت تظاهرة في بلدة بسيمة في الـ20 من كانون الأول ضد الوجود المسلّح ومطالبة بعقد المصالحة، فما كان من المسلحين إلّا أن واجهوا التظاهرة بالرصاص، فقُتل أحد المتظاهرين وجرح آخرون. وسرعان ما تحوّل الرّد على اللجان المحليّة إلى اشتباكات مع مواقع الجيش المحيطة، فتوسّعت لتشمل غالبية المحاور. وفي الـ23 من كانون الأوّل، أدت غارة للطائرات الحربية السورية على تجمّع لآليات للمسلّحين قرب عين الفيجة، إلى حدوث أضرار خارجية في منشأة النبع، لم تؤثّر على ضخّ الماء ولم تحدث ضرراً في الداخل. وبحسب أكثر من مصدر عسكري وأهلي في المنطقة، فإن المسلّحين استغلوا غارة الجيش، وأحدثوا بعد ساعاتٍ تفجيراً في بدن النفق الذي ينقل المياه إلى دمشق، موجّهين ماء النبع إلى مجرى بردى، تاركين دمشق شبه عطشى، ومستخدمين ورقة الإعلام للضغط على الجيش وتحميله المسؤولية، إضافة إلى رمي كميّات من مادة المازوت وروث الحيوانات في الماء الدافق.

العملية العسكرية مستمرّة

خلال الأيام الماضية، نجح الجيش ولجان المصالحة، بحضور ضباط روس من مركز المصالحة في حميميم، في دفع عددٍ كبيرٍ من المسلّحين المحليين إلى التسوية، في مقابل تعنّت آخرين، وإصرارهم على الاستمرار في المعركة. وكادت التسوية الشاملة أن توضع حيّز التنفيذ ليل أول من أمس، بعد قبول غالبية الفصائل المسلّحة اقتراحات الدولة، ومن ضمنها «أحرار الشام»، ورفع الأعلام السورية فوق المنشآت ودخول ورشات الصيانة لإعادة المياه إلى مجراها. لكنّ «النصرة»، التي بات يقودها «أمير» القلمون الشرقي المدعو أبو سارية الأردني، بحسب المصادر الأمنية المعنية، «عرقلت المصالحة في آخر لحظة، واضعةً شروطاً جديدة، ومطالبةً بإطلاق سراح إرهابيين خطرين من قبضة الدولة». وتُجمع المصادر الأمنية والعسكرية على أن «المسلّحين ليسوا في وضع يسمح لهم الآن بوضع شروط، فالجيش أخذ اليوم (أمس) بسيمة بالقوّة، وهم باتوا محصورين في عين الفيجة والخضرا وأطراف دير مقرن، وقطع الطريق بشكل نهائي على القلمون الشرقي بات مسألة وقت، والعملية مستمرة حتى تثبيت سلطة الدولة في الوادي».
وتختصر مصادر دبلوماسية في دمشق أزمة الوادي الحاليّة بـ«محاولات المسلّحين المماطلة لإبقاء نبع عين الفيجة ورقةً في مؤتمر الأستانة (كما حاول المسلّحون وضع عين الفيجة ضمن التفاوض على ملفّ حلب قبل استعادتها)، خصوصاً بعد البيانات والتصريحات التي ترفض المشاركة في المؤتمر، قبل وقف إطلاق النار في الوادي، علماً بأن المسلّحين هم من خرقوا وقف إطلاق النار في المنطقة، ومن غير المعقول أن تترك الدولة أمن العاصمة القومي بأيدي جماعات إرهابية».




عودة وقف إطلاق النار بعد انهياره لساعات

بعد تعثّر الاتفاق الأول لوقف إطلاق النار في منطقة عين الفيجة، إثر تعرض فرق الصيانة، التي دخلت بموجبه للبدء بعملية إصلاح محطة ضخ المياه، لإطلاق نار، أُعلنت في وقت متأخر من ليل أمس عودة وقف إطلاق النار مجدداً بعد اتصالات مكثفة أجريت لاحتواء الوضع وتجنّب التصعيد العسكري.
وكان قد تم الإعلان عن الاتفاق الأول ظهر أمس، وأكد محافظ ريف دمشق، علاء إبراهيم، أن الاتفاق ينص على أن «يسلم من يرغب من المسلحين أسلحته، بينما يتم ترحيل من يرفضون تسوية أوضاعهم إلى إدلب»، لافتاً إلى «دخول ورشات الصيانة لإعادة تأهيل نبع الفيجة». وبدوره، أشار وزير الموارد المائية نبيل الحسن (الصورة) إلى دخول ورشات الوزارة إلى ثلاثة مواقع، على أن يتوجه «القسم الأول مباشرة إلى ينابيع عين الفيجة، والثاني إلى نبع عين الحاروش، وقسم إلى وادي بردى للكشف عن الأضرار التي لحقت بالأنابيب».