بيت لحم | ليس غريباً على الفلسطينيين الرواية التي تقول إن الملك اليهودي هيرودس قتل أطفال مدينة بيت لحم، جنوبي الضفة المحتلة، عندما سمع أن طفلاً سيولد فيها ويأخذ مكانه، في إشارة إلى السيد المسيح. هم يقرنون هذه القصة، بغض النظر عن صحتها، بسلوك العدو الإسرائيلي منذ احتلاله فلسطين مع أهلها وأبنائها صغاراً وكباراً. لكن للطفل يعقوب عابدة، المحاصر مع عائلته في منطقة نائية بين ثلاثة مستوطنات، قصة أخرى.
عائلة عابدة، التي قررت أن تبقى في أرضها في منطقة الشفا، جنوبي بيت لحم، جنوبي الضفة المحتلة، آثرت أن تأكل من بصل الأرض وعدسها، وأن ترزع الأمل على الأرض التي حاول الاحتلال مصادرتها منهم بعدة طرق دون نتيجة. تقول الأم ازدهار (37 عاماً) عن طفلها يعقوب، الذي يبلغ من العمر عامين ونصف، إن الاحتلال والاستيطان يهددان حياته، ويمنعانه أبسط حقوقه أسوة بأطفال العالم، وهو الحق في اللعب. وتضيف: «ربما هو الطفل الوحيد في العالم المعزول عن ممارسة طفولته، فيما باقي أطفال المستوطنين يلعبون في المتنزهات».
والسبب في كون يعقوب وحيداً حتى دون أقرانه من الفلسطينيين، هو أنه يعيش مع والديه وجدّه من جهة أمه في بيت خشبي مبني بطريقة بدائية، وسط أرضهم المعزولة عن المناطق الفلسطينية السكنية، فيما تحاصر المنزل الصغير مستوطنات «مجدل عوز» و«إليعازر» و«افرات»، كما يطوقه الشارع الاستيطاني رقم (60) الواصل بين مستوطنات جنوب الضفة ومستوطنات القدس المحتلة.
ويفرض الاحتلال على العائلة منعاً تاماً للبناء أو تحسين ظروف العيش، في ظل أنه لم يستطع مصادرة الأرض بعد. يروي المواطن الخمسيني محمد عابدة، الذي استشهدت والدته وشقيقه خالد في اجتياح جيش الاحتلال كنيسة المهد إبّان انتفاضة الأقصى الثانية، أنه رغم امتلاكه الأوراق الرسمية التي تثبت ملكيته الأرض،لا يزال يخشى الغياب عنها لمدة تزيد عن يومين خشية سعي الاحتلال إلى تسجيلها ضمن ما يسمى «أملاك الغائبين» تمهيداً لمصادرتها.
وأرضه التي تبلغ مساحتها حوالى 20 دونماً، عرضت عليه مقابلها جمعية استيطانية قبل أعوام نحو 15 مليون دولار أميركي لبيعها، كما يقول، بالإضافة إلى جنسية إسرائيلية وأخرى أجنبية. ويضيف عابدة: «لمّا حين رفضت عرضهم قابلوني بالضرب وبالتهديد، لكنهم لا يكفون عن إرسال سماسرة بحجة الاستئجار أو مشاركتي بالزراعة للسيطرة على أرضي بطرق ملتوية».

رفض أصحاب الأرض عروضاً بمبالغ مالية كبيرة وجنسيات أجنبية

في أحد الأيام، واجهت ازدهار أكثر من ثلاثين جندياً إسرائيلياً وحدها حينما اضطر زوجها إلى قضاء يوم في المستشفى بسبب مرض السكري، علماً بأن العائلة يلزمها للوصول إلى أقرب طبيب مسافة 15 كلم عبر السيارة، بسبب إجراءات الاحتلال المفروضة عليهم ومنع إدخال طواقم الإسعاف إلى منطقتهم.
وعن ارتباطها بمحمد رغم اطلاعها على المعاناة التي ستتعرض لها، قالت ازدهار: «يكفي أننا نعيش فوق أرضنا بكرامة، ونمارس فلسطينيتنا بكل جرأة... نزرع ونأكل من عرق جبينا، نفلح الأرض ونرويها بالمحبة، ولا نقف في طوابير الاستجداء أو الذل باحثين عن لقمة عيش أو تسول».
ورغم ضيق الحال وخسارة مزروعاته بسبب إجراءات الاحتلال أيام القطاف لثمار الخضراوات وأشجار الزيتون والعنب، عبر إغراقها بمياه الصرف الصحي، فإنه يرفض ترك أرضه، كما ساعده بعض ناشطي مقاومة الاستيطان على بيع منتج الدبس الذي يصنعه من عنبه لتعزيز صموده وسط المستوطنات. لكن الاضطهاد بحق أبو يعقوب وعائلته يقابله تهميش مجتمعي فلسطيني وتجاهل رسمي من السلطة، وجل ما يتلقونه هو «كلمات تعزيز الصمود والدعم».


يحمل عابدة شهادة جامعية في الطباعة والتجليد، وهو حاصل على المرتبة الأولى على مستوى فلسطين عام 1990 في تجليد القرآن، كما عمل على طباعة البيانات السياسية والعسكرية لفصائل «منظمة التحرير» إبّان الانتفاضة الأولى، الأمر الذي كلفه قضاء ثلاث سنوات في سجون الاحتلال تعرض خلالها إلى العذاب والحرمان.
ويضيف محمد: «لا أستطيع سماع صوت الأذان لبعدي عن المناطق الفلسطينية، وبسبب أصوات أسلحة جنود الاحتلال التي تعمل على تهجيري بإجراء تدريباتها بين مزروعاتي في بعض الأحيان... رغم ذلك سعدت يوم سمعت صواريخ المقاومة الآتية من غزة تضرب هذه المستوطنات».
وبينما كان يتحدث إلينا، بقي يعقوب الصغير يلهو بين المزروعات، رغم أنه يعرف أن عليه مهمة شاقة بعد والده، هي الحفاظ على هذه الأرض التي بقيت صامدة رغم الأساليب المختلفة للاحتلال في محاولة سبلها.