تونس | تعيش تونس منذ أكثر من ثلاثة أشهر على وقع تحركات احتجاجية وسلسلة إضرابات، شملت كل القطاعات تقريبا. ويعدّ حجم التحركات غير مسبوق في تاريخ البلاد، وكان لها تأثير مباشر على نسبة النمو التي انزلقت لتصل الى حدود 1.7 في المئة خلال الثلاثية الأولى من السنة الحالية. وكان أحد الأسباب الرئيسية توقف إنتاج الفوسفات في محافظة قفصة بعد اعتصام عدد كبير من المحتجين المطالبين بالعدالة الاجتماعية والتشغيل.
هذه الإضرابات، العشوائية منها والمنظمة، وضعت حكومة الحبيب الصيد في وضع محرج بعدما تسبب توقف العمل في خسائر مادية هائلة وفي تعطل مصالح المواطنين على اعتبار أن الإضرابات شملت عدداً من القطاعات الحيوية، أهمها قطاع الصحة، الذي يخوض في اليومين الحاليين إضرابا بعد إضراب مماثل وقع في أواخر أيار (مايو) الماضي، وقطاع التعليم الابتدائي الذي لا يزال في حالة إضراب يتمثل في مقاطعة المعلمين للامتحانات، ما دفع، أمس، بحكومة الصيد إلى تقرير نجاح التلاميذ دون إجراء الامتحانات. ووصف مستوري القمودي، الأمين العام للنقابة العامة للتعليم الاساسي التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل القرار الحكومي بأنه «إعلان حرب».
الموقف الصارم الذي صدر عن الحكومة والمتمثل في إقرار اقتطاع من أجور المضربين لم يكف لإخماد نار الإضرابات والاحتجاجات، ما دفعها إلى توجيه خطاب أكثر صرامة للمحتجين والمضربين. وأكد رئيس الحكومة في خطابه أمام مجلس نواب الشعب الأسبوع الماضي، أن الحكومة لن تقبل الابتزاز وسياسة لي الذراع. وقال «أقولها صراحة، وبكل وضوح، إننا لن نقبل الابتزاز وسياسة لي الذراع ولن نسمح بالفوضى والتطاول على القانون ولا أحد فوق القانون مهما علا شأنه».
كل هذه الإضرابات والتحركات الاحتجاجية، التي أخذت منحى عنيفاً، وخاصة في الجنوب التونسي، والتي تطالب الحكومة بالزيادات في الأجور أو بتحقيق عدالة تنموية في الجهات أججت أزمة سياسية في البلاد بعد توجيه أحزاب الرباعي الحاكم (حركة نداء تونس وحركة النهضة وآفاق تونس والاتحاد الوطني الحرّ)، أصابع الاتهام للمعارضة وتحديداً «حزب المؤتمر من أجل الجمهورية»، أي حزب الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، و»حراك شعب المواطنين» الذي أعلن المرزوقي نفسه تشكيله بعيد الانتخابات الرئاسية. وتتناول الاتهامات على نحو خاص ما له علاقة بالعنف الذي شهده الجنوب في إطار حملة «وينو البترول؟».
توظيف سياسي
وترى الأحزاب الحاكمة أن هناك توظيفاً للمطالب الاجتماعية عبر تأجيج حدة الإضرابات والاحتجاجات وعبر توجيه الخطاب السياسي نحو الحلول القصوى.
حركة «نداء تونس»، أي حزب الرئيس الباجي قائد السبسي، أكدت، في بيان قبل يومين، أنها متخوفة من العواقب الوخيمة الناجمة عما وصفته بـ»حملة التغليط الممنهجة» لحملة «وينو البترول؟» وما انبنت عليه من خلفيات سلبية تسعى إلى إشعال نيران النّعرات الجهوية وإثارة الفتن والتقسيم، فضلا عن المغالطات والترويج للمعلومات الخاطئة.
ووصفت «النداء» هذه التحركات المطالبة بالشفافيّة في قطاع الطاقة «باللاوطنية» وقالت إنها «تأتي في وضع حساس تحتاج فيه البلاد إلى التكاتف والتضامن لمواجهة مخاطر الإرهاب والأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة والمطالب الاجتماعية المتواترة، حتّى نضمن لبلادنا الانسجام الوطني والتّماسك الاجتماعي والاستقرار والاطمئنان الذي يمكّن من استرجاع الثقة ودفع الاستثمار وتوفير الحلول الملائمة للأولويات الوطنية والاجتماعية».
رئيس كتلة «نداء تونس» البرلمانية، محمد الفاضل بن عمران، رأى في حديث لـ»الأخبار» أن «هناك طرفا سياسيا كان في الحكم قبلنا (في إشارة لحزب الرئيس السابق المنصف المرزوقي) يؤجج الاحتجاجات في الجنوب في محاولة لتعجيز الحكومة والضغط عليها، ومن ورائها إظهار حركة نداء تونس بمظهر الفاشل في تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية».
وفيما يرفض «المؤتمر من أجل الجمهورية» توجيه أصابع الاتهام إليه، قال لـ»الأخبار» المتحدث باسمه، هيثم بن بلقاسم، أن هذه الاتهامات مجرد افتراءات للتغطية على فشل الحكومة. وتابع «نحن نساند كل المطالب الاجتماعية الشرعية في إطار التعبير السلمي الذي يضمنه الدستور، وليس لنا أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالاحتجاجات التي تحولت لأحداث العنف حصلت ولا تزال تحصل».
كل هذه الاحتجاجات والمطالب الاجتماعية المتنامية وجبهات الصراع المتعددة التي تشمل عدداً من القطاعات في وقت واحد، وضعت حكومة الائتلاف الرباعي في وضع لا تحسد عليه. وحتى دعواتها المتكررة للسلم الاجتماعي لم تجد آذاناً صاغية، لا بل تعقدت الأمور أكثر ليبدو وكأنّ تونس تدخل في أزمة سياسية ومعركة كسر عظم بين الحكومة ومناوئيها، يمكن أن تؤدي إلى إفلاس الدولة وعودتها إلى الأشهر التي تلت سقوط نظام زين العابدين بن علي.