قضى في معتقل تنظيم «داعش» منذ أيام الشيخ محمد المغط الحليبي شيخ الطريقة الرفاعية الصوفية في محافظة الرقة، وأحد أولياء أولاد الشيخ عيسى القمر السلامة الرفاعي الحسيني، وخليفته في مدينة الرقة منذ عام 1987.يروي أحد أقارب الشيخ رافضاً ذكر اسمه لـ«الأخبار»: «بعد أن ساءت أوضاع المدينة طلبنا منه المغادرة إلى مكان آمن، وبعد الإلحاح غادر مع عائلته إلى أقاربه في تركيا لكنه آثر البقاء لاجئاً فاراً من لعنة الحرب الدائرة في مدينته».

يضيف: «عاد منذ أيام مع أفراد أسرته إلى بيته وأهله، واعتكف في منزله زاهداً في كل شيء. لم يكن يدرك أن قدره هو الذي يدفعه إلى العودة».
اعتقل رجال دورية «الحسبة» التابعة لتنظيم «داعش» الشيخ من منزله. لم يحتمل فيها جسده أنواع التعذيب التي تعرض لها. بعد عشرة أيام من اعتقاله تم إبلاغ عائلته بوفاته. وضعوا جثمانه في براد مستشفى الرقة الوطني، هناك ألقى أهله وبعض أقاربه النظرة الأخيرة على وجهه. تقرير الوفاة يشير إلى أنها ناتجة من «احتشاء قلبي». رفض «داعش» تسليم جثة الشيخ إلى ذويه ليتسنى لهم دفنها في مقبرة العائلة. يقول أحد مريديه: «لن يكون لشيخنا جنازة تخرج من بيته ونمشي خلفها، ولا قبراً تزوره بناته وزوجته وولده الوحيد، لأن تنظيم داعش يخشى أن يتحول قبره إلى مزار، وهم الذين هدموا جميع مزارات وأضرحة مشايخ الصوفية في المحافظة منذ سيطرتهم عليها قبل عام».

هدم الأضرحة

مع إعلان نشوء تنظيم «داعش» في الجزيرة السورية بدأ بتفجير مقامات ومزارات شيوخ الطرق الصوفية، وهي منتشرة بكثرة في سوريا، وتشكل نموذجاً حقيقياً للإسلام المعتدل منذ مئات السنين. وثق ناشطون من محافظة دير الزور قيام تنظيم «داعش» بتفجير ضريح الشيخ عيسى القمر الرفاعي الحسيني الواقع في بلدة البصيرة على نهر الفرات، شرق مدينة دير الزور. يتجاوز عمر الضريح 250 سنة. ويصف أهل المنطقة الشيخ عيسى بأحد أولياء الله الصالحين، وهو شيخ الطريقة الصوفية الرفاعية في سوريا. كما فجر عناصر التنظيم ضريح خليفته الشيخ عبد المجيد الشيخ عيسى الرفاعي. خرج أبناؤه مع عائلاتهم إلى تركيا حيث يحظون بالتقدير والاحترام عند أقاربهم في المدن العربية المُحتلة من السلطنة العثمانية.
يقول خطيب أحد المساجد في مدينة الرقة وهو سعودي الجنسية: «إن الصوفيين كفرة ويجب هدم أضرحتهم ومزاراتهم لأنها تحولت مع الزمن إلى أماكن للتبرك والتقرب من الله، وهذا لا يجوز في الإسلام، لذلك كانت تجب إعادة الناس إلى رشدهم وهديهم».
سوُيت القبور بالأرض، وقُتل الشيخ حسن أبرز شيوخ الرقة ورُميت جثته أمام المسجد الكبير في المدينة حيث كان يُقيم، وأعلنت الحرب على مشايخ الصوفية في عموم الجزيرة السورية. تمكن بعضهم من الفرار إلى خارج مناطق حكم التنظيم، إلا أن بعضهم رفض الخروج من بيته آخذين بالحديث النبوي «إذا كثرت الفتن فالزموا بيوتكم».
لم يأمن الشيوخ حتى في بيوتهم، اعتقل قبل نحو عام الشيخ محمد خير محمد توفيق عجان الحديد، وهو من شيوخ الصوفية البارزين في سوريا وصودرت أملاكه. ولا يعرف أهله عنه أي خبر، إضافة إلى العديد من المشايخ الذين غيبتهم السجون ولا يُعرف مصيرهم حتى الآن.

الصوفية نهج وفكر

يدعو النهج الصوفي إلى التسامح والإحسان والعيش المشترك، وتحظى الصوفية بتقدير العوام في الجزيرة السورية. وساهم مشايخها بحل كثير من الخلافات والنزاعات بين العشائر، وكانت لهم مكانتهم الاجتماعية وحضورهم في الذاكرة الجمعية للمنطقة ككل. وتُروى عن كراماتهم حكايات كثيرة قد لا يقبلها العقل البشري أحياناً، إلا أنها بنظر عموم أهل الجزيرة حقيقة موثقة. يصفهم البعض بـ«سنة آل البيت»، لما في طقوسهم من تقديس واحترام لأهل بيت النبي.
يقول الشيخ محمد حبيب الفندي خليفة الشيخ محمد خير عجان الحديد لـ«الأخبار» إن «التصوف الذي كان في محافظة الرقة كان مبنياً على تعلم الشريعة المطهرة، من أصولها الواردة في الكتاب والسنة والفقه، ولا يوجد فيها ما يخالف الشرع، وهذا متفق عليه عند عامة مشايخ الرقة منذ أكثر من قرن، ولم يكن يعترض عليه سوى بعض غلاة الوهابية». لكن في «شرع» داعش، لا مجال لأي إسلام معتدل. وحدها تلك النسخة الوهابية هي السائدة، وتدمّر كل ما يواجهها من اعتدال. انه الزمن الأسود للإسلام الصوفي المعتدل في البلاد التي تحتلها «داعش».