القاهرة | مبكراً بدأت الانشقاقات في معسكر عبد الفتاح السيسي، قبل صعوده إلى الحكم الذي يتم العام الأول فيه، بالتصدعات التي فككت حركة «تمرد» ودفعت بها إلى التشظي قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية بداية عام 2014، بسبب رفض بعض الأعضاء المؤسسين للحركة عودة فلول حسني مبارك وتصدرهم المشهد السياسي، فقرروا دعم حمدين صباحي، فيما اعتبرت الجبهة الأخرى داخل الحركة أن القرار الرسمي المؤسسي هو دعم السيسي، وأن دعم صباحي هو قرار فردي لأشخاص لم يلتزموا مقررات «تمرد».
وسريعاً، أدركت بعض الأحزاب والحركات التي دعمت السيسي في 30 يونيو أن الأمور في مصر لن تجري كما كانوا يحلمون، فبدأوا مبكراً بلورة موقفهم المعارض نتيجة التنكيل برموزها، خصوصاً أن يد الدولة الباطشة طاولتهم، مثل ما حدث مع «حركة 6 أبريل» التي يقبع عدد من أبرز رموزها الآن في السجن، كأحمد ماهر ومحمد عادل وأحمد دومة، إضافة إلى عشرات من أعضائها الذين يحاكمون جنائياً بتهم تتعلق بخرقهم قانون التظاهر الذي صدر في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور، فضلاً عن قرار من المحكمة بحظر الحركة واعتبارها إرهابية ومصادرة أموالها ومقارّها.
معارضة السيسي بدأت على استحياء، فنشوة الدولة وجماهيرها بعزل مرسي لم تكن لتسمح بوجود صوت معارض لمن تراه الناس منقذاً لها وللدولة من «غول الإخوان»، ولكن عوامل عديدة ساعدت هذه الأحزاب والحركات على رفع صوتها في نقد النظام ومعارضته، نتيجة ممارساته التي طاولت بعض مؤيديه قبل خصومه، ضمن توسع الدولة في استخدام البطش حتى ضد من هم خارج صفوف «الإخوان».

عودة التعذيب والإهانة

ولعل أكثر ما كان بارزاً في العام الأول على حكم السيسي هو عودة التعذيب إلى السجون وأقسام الشرطة، فعلى سبيل المثال في قسم امبابة لقي 7 متهمين حتفهم داخل القسم، اثنان منهم نتيجة التكدس والاختناق، كذلك زاد سجل حالات الإخفاء والتغييب القسري الذي تتهم به أجهزة الأمن بحق بعض المعتقلين، وقدرته بعض الحملات الراصدة للانتهاكات بنحو 163 حالة في شهري نيسان ومايو الماضيين فقط.
نشوة الدولة وجماهيرها بعزل مرسي لم تسمح بوجود صوت معارض

وعملياً، تتحمل وزارة الداخلية ــ التي لم تعتذر للمحامين كما فعل السيسي نفسه قبل يومين ــ العبء الأكبر في تحولات الهوى السياسي. فـ«الداخلية» التي كانت ممارساتها دافعاً أساسياً لحراك 25 يناير ثم تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك، عادت بصورة أعنف لتمارس انتهاكاتها، وهو أمر ثبت أن له كلفته السياسية العالية على نظام الحكم، إذ ذهب القمع والانتهاكات خارج نطاق الصراع السياسي بين الدولة ومؤيدي «الإخوان»، وطاول مواطنين عاديين في قضايا لا علاقة لها بالسياسة، وهي ممارسات ربما دفعت السيسي بعد عام من حكمه إلى الإقرار بأن «الداخلية» ترتكب «اعتداءات» لا بد من كبح جماحها وفرملتها قليلاً، مع التوسع ــ قليلاً ــ في إحالة المتجاوزين من منتسبي الداخلية إلى المحاكمات!
وبرغم حالة التعبئة الإعلامية والتجييش المبالغ فيه لإنجازات السيسي خلال عامه الأول، فإن تململاً واضحاً يمكن قياسه بسهولة في الشارع المصري نتيجة غياب الشعور بأي منجز من المنجزات التي تروجها وسائل الإعلام، بالتزامن مع قرارات صعبة مثل رفع الدعم في موجته الأولى، ولعل ما يساعد في فهم غياب أي رد فعل شعبي مضاد للقرار، هو الخوف من التنكيل مثلما جرى بأنصار «الإخوان»... أو الإيمان بأن السيسي هو الرجل المنقذ ويجب الصبر عليه!
وفي الآونة الأخيرة، دخلت النقابات المهنية على الخط المناوئ للنظام، ممثلة في نقابة المحامين التي أشعلت شرارة الاحتجاج الأولى ضد ما جرى لأحد المحامين في النقض (الدرجة الأعلى في صفوف النقابة)، وهي تستلزم تاريخاً طويلاً من العمل في المحاماة، وذلك بعد تعرضه بالضرب بالحذاء من مأمور أحد أقسام شرطة دمياط، برغم أن سامح عاشور (نقيب المحامين) هو من أكبر مؤيدي النظام الحالي، ولكنه لم يستطع إلا أن يجاري حالة السخط العام بين صفوف المحامين، ودعا إلى إضراب شهد حرقاً لصور وزير الداخلية مجدي عبد الغفار وهتافات ضده، قبل أن يتدخل السيسي بالاعتذار للمحامين ويطالب الشرطة بضبط النفس والتوقف عن الأفعال المسيئة.

«الإخوان» ليست كما قبل

أما في معسكر مناهضي السلطة، وبرغم ما يعتبره أنصار «الإخوان» ودوائرهم الاجتماعية الواسعة صموداً أسطورياً لهم ضد الدولة في نزاعهم المستمر منذ نحو عامين، فإن الضربات الأمنية العنيفة والاختراقات الواسعة التي حققتها أجهزة الأمن داخل صفوف الجماعة أثرت فيهم كثيراً. فمثلاً، توسع الأمن في حملات اعتقالات طاولت الصف الثالث والرابع من الأطر التنظيمية، بالإضافة إلى الإنهاك البدني والنفسي والمعنوي الذي تنتهجه أجهزة الدولة ضد المعتقلين وأسرهم، عبر نقلهم إلى سجون بعيدة عن إقامتهم ومنعهم من حقهم القانوني في الزيارات الأسرية، أو منع دخول أطعمة ومشروبات وبعض الاحتياجات الأخرى، ثم تعمد تأخير استخراج التصاريح بالزيارات وتأخير نقل المتهمين إلى المحاكم لمباشرة الجلسات، وغيرها من التقاليد البيروقراطية العتيقة للدولة المصرية.
كل ما سبق أثر مباشرة في صفوف الجماعة والدوائر الاجتماعية حولهم، وأنهك قواهم وأثر في قدرتهم على الحشد في التظاهرات التي انزوت من الشوارع الرئيسية إلى الشوارع الفرعية في المراكز والقرى غير الرئيسية، مع تظاهرات مفاجئة سريعة وخاطفة في بعض الأماكن الحيوية تظهر وتنفضّ سريعاً. لكن ظهر أن هناك تراجعاً حاداً في قدرة الجماعة على الحشد، خاصة أنه مسار تجاوزته الوقائع على الأرض، وهو ما يتجلى في تنامي التصعيد في عمليات التفجير والعنف ضد أجهزة الدولة ومنتسبيها، مع أن «الإخوان» تنفي مسؤوليتها عنها وتنسبها إلى «مجهولين».
ولا يمكن في هذا السياق إغفال أن الخلافات البينية بين الحلفاء الإسلاميين ضربت تحالف «دعم الشرعية» الذي تشكل قبل تظاهرات 30 يونيو، ممثلاً عن التيارات والأحزاب والحركات السياسية المحسوبة على معسكر الإسلام السياسي، ولكن التحالف تفكك وتشظى نتيجة خلافات بين مكوناته، إما احتجاجاً على هيمنة «الإخوان» على اتخاذ القرار، أو رغبتهم في تطويع الجميع لرؤيتهم، وإبقاء الكيانات الأخرى في دور «السنيد»... أو لقناعة قطاعات أخرى بعبثية استمرار المواجهة مع أجهزة الدولة التي لن تخلف إلا مزيداً من الاعتقالات والقتل والتنكيل.
وحده بقي حزب «النور» السلفي من الأحزاب المحسوبة على الإسلاميين في معسكر النظام، مع أن المطّلع على المشهد السياسي المصري يدرك جيداً أن «النور» لن ينجح في مسعاه بتصدر وجرّ قاطرة الإسلام السياسي بدلاً من «الإخوان»، فجمهور الإسلاميين بمفهومه الواسع منحاز كلياً ضد السيسي ونظامه، حتى مع غياب قناعة قطاع واسع منهم بالأداء السياسي للجماعة، فإنهم بكل تأكيد يرفضون القتل والتنكيل الذي جرى بحقهم. كذلك لن يقبل معسكر القوى المؤيدة للنظام بوجود «النور» الذي هو بالأساس نسخة أكثر تشدداً من «الإخوان» حتى إن اضطروا إلى غير ذلك نتيجة المواءمات السياسية اللازمة لعزل مرسي.