مجرّد حفرٍ في العراء شرق سوريا تحوّلت إلى مأوى لنحو خمسة آلاف مدنيّ هارب من جحيم معارك الموصل ودير الزّور. حفر مغطّاة بما يتوافر من أقمشة تُحوَّل إلى سقوفٍ واهية، وتجعلُ من قاطنيها سكّان مغاور في القرن الحادي والعشرين. وفيما تجتذب المعارك الدّائرة على مقربة منهم عشرات وسائل الإعلام العالميّة، تغيبُ قصصُ آلاف الضحايا الأحياء عنها. المعاناة بدأت قبل أكثر من شهر، مع محاولة عائلات هاربة من دير الزور الوصول إلى مخيم الهول (جنوب شرق الحسكة)، قبل أن يتضاعف عدد الهاربين من الجحيم مع انطلاقة معركة الموصل، حيث وجد المئات أنفسهم يسلكون المسار نفسه من العراق نحو دير الزور، وصولاً إلى نقطة «رجم صليبي». النقطة التي يصعبُ إيجادُها على الخريطة تقع قرب بلدة الدشيشة، وتشكّل حدّاً فاصلاً بين مناطق سيطرة تنظيم «داعش» ومناطق سيطرة «وحدات حماية الشعب» الكرديّة (ypg). وبدلاً من أن يؤهّلها هذا الموقع لتتحوّل إلى معبر آمن، صارت النّقطة نواةً لما تمكن تسميته «مخيم احتجاز إجباري» تستبقي فيه «الإدارة الذاتيّة» الجميع بسبب «مخاوف أمنيّة». وعلى الرغم من أنّ الأيّام الأخيرة حملت معها الفرج لبعض العالقين هناك، غيرَ أنّ أضعافهم ما زالوا في انتظاره.
الحكومة السورية: يد مغلولة؟

يبدو دور الحكومة السوريّة في هذا الملف ثانويّاً بفعل «الأمر الواقع». عصام الحسين، مدير الشؤون الاجتماعيّة في الحسكة، يقول لـ«الأخبار» إنّ «التّنسيق بخصوص رجم صليبي يجري بين المفوضيّة و ypg، ونحن بدورنا ننسّق مع المفوضيّة». يوضح الحسين أنّ «محافظة الحسكة قدّمت التّسهيلات اللازمة للدفعة الأولى التي تمكّنت من الوصول إلى مخيم الهول، وسهَّلَت نقل من شاء منهم إلى دمشق عبر مطار القامشلي، ووصول من شاء منهم إلى أقاربهم في الحسكة». ويضيف: «نقدّم كل ما نستطيعه لمخيّم الهول من مواد صحيّة وغذائيّة بالتنسيق مع المنظمات الدوليّة. أما نقطة رجم صليبي، فالوصول إليها غير متاح».

«المفوضيّة»: آمال وتمنيّات

تقول مفوضيّة الأمم المتحدة للّاجئين في بيانٍ وزّعته قبل أيّام وتلقّت «الأخبار» نسخةً منه، إنّها نجحت في «نقل مواد إغاثيّة إلى رجم صليبي، ونقل بعض العالقين هناك نحو مخيّم الهول»، لكنّ البيان يشير في الوقت نفسه إلى أنّ المفوضيّة لم تتمكّن (حتى السابع من الشهر الجاري) من «الوصول الكافي إلى نقطة التفتيش، ولم تستطع التحقق من أعداد الأشخاص في المنطقة لتقويم احتياجاتهم». وكان أقصى ما تمكّنت المفوضيّة من إنجازه هو الاعتماد على «المنظمات غير الحكومية الشريكة» للوقوف على أوضاع العالقين، علاوةً على التقاط بعض الشّهادات من الواصلين إلى مخيم الهول. فراس الخطيب، الناطق الرسمي باسم المفوضيّة في سوريا، يوضح لـ«الأخبار» أنّ نقطة رجم صليبي غير مؤهّلة أساساً لاستقبال مدنيين، ويقول: «لا تتوافر هناك أي خدمات، يعاني العالقون من نقص في كل المقوّمات: مياه، خيم، أدوية... إلخ». ووفقاً للخطيب، فقد مُنعت المفوضيّة في الفترة الأولى من الوصول إلى رجم صليبي، لأنّ «الوحدات» كانت تعدّها «منطقة أمنيّة». لاحقاً لذلك، أدى التواصل المكثّف إلى انفراجة بسيطة سمحت بإمكانيّة «إجلاء عدد من المرضى، والفئات الأشد ضعفاً (نساء، أطفال، عجائز)». ورغم هذه الانفراجة، لكنّ «الإدارة الذاتيّة» ما زالت تفرض ضوابط شديدة التعقيد تحول دون نقل العالقين، وخلال اليومين الأخيرين تناقلت بعض وسائل الإعلام أنباءً عن وفاة شخصين، فيما أكّدت مصادر محليّة لـ«الأخبار» أنّ «عدد الذين توفّوا خلال الأسبوع الأخير أربعة أشخاص، وهو مرشّح للتزايد». وحتى الآن، ما زالت «المفوضيّة» تأمل «تسريع إجراءات نقل العالقين في رجم صليبي إلى مخيم الهول».
لا تبدو الحالة
المزرية للعالقين ذات أولويّة لدى الهيئات الكرديّة

«الأكراد»: الهواجس الأمنيّة فوق كل شيء

لا تبدو الحالة الإنسانيّة المزرية للعالقين ذات أولويّة قصوى لدى «الهيئات» الكرديّة التي تواصل التمسّك بضرورة «التدقيق الأمني» المستفيض. ويرى «عضو الهيئة التنفيذيّة في حركة المجتمع الديموقراطي» آلدار خليل، أنّ «الأسباب الأمنيّة شديدة الأهميّة، وداعش قضيّة جديّة وخطيرة». يقول خليل لـ«الأخبار» إنّه «لا يمكن اللعب في موضوع التّدقيق الأمني، ولا يمكن الحكم على النّاس من مظهرهم، ولا بديل من التّأكد من أسمائهم وخلفيّاتهم». ومع تركيزنا على وجوب تسريع تلك الإجراءات، يؤكّد خليل أنّه «أُصدِرَت توجيهات بهذا الخصوص»، ويحيلنا على «مكتب شؤون اللاجئين والمنظّمات» حيث يمكن أن «نحظى بإجابات أدق، لأنّهم ملمّون بالموضوع أكثر». بدوره، يشدّد «مستشار الإدارة الذاتيّة الديموقراطيّة» بدران جيا كرد على «الضرورات الأمنيّة»، ويقول لـ«الأخبار» إنّ «الضرورات الأمنيّة كانت تتطلب منّا إعداد المخيم (يقصد الهول) وترتيب نظام حماية له بنحو جيّد، كذلك فإنّ الجموع الموجودة على الحدود بحاجة إلى الفلترة والدراسة الأمنيّة نتيجة الاختراقات الكثيرة في صفوف هؤلاء اللّاجئين». يرمي بدران الكرة في ملعب «المفوضيّة»، ويحمّلها المسؤوليّة عن تدهور الأوضاع، ويقول: «الموضوع في الدرجة الأولى يتعلق بعدم جاهزية المخيّم، الأعمال كانت تسير ببطء من طرف المفوضيّة، وما زالت الظروف غير مثاليّة حتى الآن». ويضيف: «مع ذلك، رأينا أنه يجب حل الموضوع، فعقدنا اجتماعات بهذا الخصوص مع المفوضية للإسراع بالعمل، علماً بأنّنا كنا نتناقش معهم بخصوص احتياجات المخيم منذ خمسة أشهر، ولكن لم يُلبَّ شيء من مطالبنا». ويتناقض هذا الكلام مع ما أكّده لـ«الأخبار» النّاطق باسم المفوضيّة فراس الخطيب، الذي يقول إنّ «مخيم الهول كان يؤوي لاجئين عراقيّين منذ نيسان الماضي، أي قبل انطلاق معركة الموصل». يوضح الخطيب أنّه «مع بداية المعركة، وتحسباً لاستقبال عدد أكبر، بدأنا بزيادة الطاقة الاستيعابية للمخيم، وسّعنا المساحة المؤهلة لاستقبال الخيم ومراكز الخدمات ووصلت الطاقة الاستيعابية إلى خمسة عشر ألف شخص». ويضيف: «نحن على وشك إنهاء المرحلة الثانية التي تخوّل المخيّم استضافة ثلاثين ألفاً، أمّا الهدف النهائي، فالوصول إلى طاقة استيعابيّة تبلغ خمسين ألفاً خلال الأسابيع القليلة القادمة».

...والنازحون «مكسر عصا»

مقارنة تصريحات «مسؤولي الإدارة الذاتيّة» بكلام «مفوضيّة شؤون اللّاجئين» كفيلة بالإيحاء بأنّ هناك «ثأراً» عالقاً بينهما، ويبدو أنّه أحد أسباب تحوّل النازحين السوريين واللاجئين العراقيين إلى «مكسر عصا». يطلب «مستشار الإدارة الذاتيّة الديموقراطيّة» بدران جيا كرد، قليلاً من الوقت، قبل أن يزوّدنا بكلام يبدو مناسباً للتصريحات الصحفيّة. يؤكّد أنّ «الإدارة الذاتية لم تتخذ يوماً أي قرار بعدم قبول اللاجئين إلى أراضيها، وبقيت أبوابها مفتوحة لحركة النزوح الكبيرة من مختلف المدن السورية والعراقية، رغم الحصار الذي تعانيه من الجهات الأربع والمعارك التي تخوضها مع الإرهاب». مربط الفرس، حسب بدران، أنّ «الدّعم الذي تقدمه المنظمات الإنسانية لمناطق روج افا ضعيف جداً، ومعدوم في كثير من الأحيان والإدارة الذاتية وحدها لا تستطيع تلبية احتياجات هذا الكمّ الهائل من النازحين واللاجئين». ويضيف: «نناشد كل المنظمات، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، التدخل لأداء واجبها تجاه هذه الحالة الإنسانيّة دون تأخير، وإلا فهم يتحملون مسؤولية الحالة الإنسانية التي تتأزم يوماً بعد يوم».