لا يعدّ وصول، جمال ولد عباس، إلى المنصب الرفيع في الجزائر، وليد نضال أو منافسة مع أحد. فهو هادئ، مسالم، يرفض خوض الصراعات، ويرضى بما "يجود به عليه الرئيس"، عبد العزيز بوتفليقة، الذي لم يبخل، وأكرمه بمسؤوليات صنعت له مسيرة حافلة.وصل أخيراً ولد عباس، في نهاية الأسبوع الماضي، إلى منصب الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، (خلفاً لعمار سعداني)، وهو المنصب السياسي الأرفع الذي قد يكون خاتمة مسار طويل تقلّد فيه العديد من المسؤوليات، التي تقترب من السياسة، من دون أن تغوص فيها كثيرا: بدءا بمسؤول في الهلال الأحمر الجزائري، مروراً بتسلمه مسؤولية خلال الفترة الانتقالية التي عاشتها الجزائر بعد توقيف المسار الانتخابي في التسعينيات، قبل أن يصل إلى رتبة وزير في عدة قطاعات مهمة بعد مجيء الرئيس بوتفليقة، ثم أخيراً "سيناتور" في مجلس الأمة.
في سيرته الذاتية، يذكر ولد عباس أنه ولد في 24 شباط/ فيفري 1934 بولاية تلمسان، ويقول إنه كان من أوائل الملتحقين بثورة التحرير سنة 1954، فكان من المحكوم عليهم بالإعدام من السلطات الاستعمارية. أرسلته جبهة التحرير الوطني في فترة الثورة إلى ألمانيا، بعدما استفاد من منحة ليدرس الطب، وقد تخرّج، على ما يذكر، طبيباً في تموز/ جويلية 1964، ليكون بذلك من الأطباء الجزائريين القليلين في فترة ما بعد الاستقلال.
خاض ولد عباس مشواراً سياسياً في صفوف جبهة التحرير الوطني

سمحت له هذه المواصفات، بأن يتقلد أول منصب له كمدير للصحة بولاية تلمسان، قبل أن يتولى برفقة عدد من الأطباء تأسيس الاتحاد الطبي الجزائري، الذي أصبح رئيسا له في ما بعد. أصبح ولد عباس في سنة 1984، عضوا في مجلس أمناء التجمع الطبي المتوسطي وفي السنة نفسها انتخب نائبا أول لرئيس اتحاد الطبي العربي وعضوا في المجلس الأعلى لاتحاد الصيادلة العرب ورئيسا شرفيا للأكاديمية العربية للصيدلة.
بالموازاة مع مساره المهني، خاض ولد عباس مشواراً سياسياً في صفوف جبهة التحرير الوطني، الحزب الواحد قبل بداية التعددية في التسعينيات. فقد شغل منصب نائب بالمجلس الشعبي عن ولاية سيدي بلعباس، ثم عمل برلمانياً في بداية الثمانينيات، ليتقلد منصب مسؤول العلاقات الخارجية (من 1994 إلى 1997) في المجلس الوطني الانتقالي، الذي كان بمثابة برلمان معين بعد توقيف مسار الانتخابات التشريعية التي فازت بها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ".
وعلى الرغم من احتكاكه بمناصب ترتبط بالعلاقات الخارجية، لم تُعرف لولد عباس مواقف معينة خارج إطار المواقف الرسمية التي تتبناها الخارجية الجزائرية، والتي تراوح بين الدفاع عن القضايا القومية وتبني مواقف عدم التدخل في شؤون الآخرين. ومن أهم اللفتات في مساره، أنه كان أول من قاد وفدا طبيا إلى العراق إبان حرب الخليج الثانية بصفته رئيسا للاتحاد الطبي الجزائري. كما أنه سارع خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان الى إيفاد وفد طبي جزائري ومساعدات إلى المنكوبين.
منعرج المسار السياسي لولد عباس كان في سنة 1999. لم يتردد لحظة في دعم المرشح عبد العزيز بوتفليقة في رئاسيات ذلك العام، التي فاز بها الأخير وظل محتفظا بكرسيه في الحكم حتى اليوم. شهدت هذه الفترة أكبر ترقية لولد عباس، الذي مُنح عدة مناصب وزارية لمدة 13 سنة، أبرزها التضامن الوطني، ثم وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات، ليغادر الحكومة عام 2012، ويعين "سناتوراً" في مجلس الأمة.
يبدي الأمين العام الجديد إعجاباً شديداً بالرئيس بوتفيلقة، ولا تكاد تخلو جملة من جمله في التصريحات الرسمية أو أحاديثه الخاصة من مدح الرئيس وإنجازاته وإسهاماته في إعادة الأمن والاستقرار للبلاد. يبالغ أحيانا لدرجة وصفه بالمتملق، إذ يشاع أنه قال مرة بعد حادث تعرض له إنّ أول من فكر فيه وهو يواجه الخطر كان الرئيس بوتفليقة. وتحتفظ الذاكرة له مرة وهو وزير للتضامن، أن عجوزا اقتربت منه ووصفت قلبه بالحنون، فرد عليها بالقول: لو تنظرين إلى قلب الرئيس، فستجدينه أكثر حنانا!
هذه القصص وغيرها، صنعت لولد عباس شخصية سياسية طريفة لا يتعامل معها كثيرا الإعلام بالجد المطلوب رغم مسؤولياتها المهمة، كما جلبت عليه انتقادات من مسؤولين في الدولة أبدوا انزعاجا من طريقته في التسيير. ولعل أبرز من هاجمه في هذا الصدد، هو مدير ديوان الرئاسة الحالي أحمد أويحيى، الذي شبهه بـ"بابا نويل" (وصف أطلقه عليه حين كان أويحيى رئيسا للحكومة إثر رفض سياسة توزيع المساعدات على الفقراء التي كان يتبناها ولد عباس).
بهذه المواصفات، يقول أحد القريبين من ولد عباس، إنه "سياسي بلا طموح"، لا يمكن أن يمثّل خطرا أو تهديدا لصنّاع القرار في الجزائر، وبالتالي اعدّه الرئيس بوتفليقة ومحيطه الأنسب في هذا التوقيت، لتسيير مرحلة حرجة يمر بها حزب جبهة التحرير الوطني بعد فترة عمار سعداني، الذي يهوى الصراع واختلاق الخصوم... ببساطة هو خيار آمن (لكنه ليس ناجعاً؟)، وقد يضطر الرئيس إلى تعويضه بعد الانتخابات، على عكس ما أعلن هو عن رغبته في البقاء حتى 2020.