تجلس أم سعد على باب خيمتها. سعد ابنها كاد أن يلقى حتفه غرقاً على أحد شواطئ اليونان، لكنه نجا وصار لاجئاً في ألمانيا. لدى زيارتك مخيما للاجئين في اليونان، ستظل تردد كلما دخلت وخرجت من المخيم: «مهما كانوا يشبهوننا فسنظل غرباء عن هذه الأرض». وكلما سرت في شوارع المدينة المكتظة ورأيت تشابه ناسها مع ناسنا ــ عاداتهم تقاليدهم وحتى طباعهم ــ ظللت تشعر بأنك غريب.اللاجئ لاجئ، مهما حاول أن يمحو عن نفسه هذه الصفة. لن يصير يوماً ابن تلك الأرض البيضاء. كيف يصير ابناً لأرض غريبة وفي الدول «الشقيقة» لا يزال الفلسطيني لاجئا؟
أم سعد تسمعك، لكنها تظل صامتة. الخيام هي نفسها. أما المخيمات، فتختلف. مهما اختلفت وجوه اللاجئين من أرض إلى أرض، فوحده الفلسطيني يحمل خيمته أينما رحل. قبل هذا كنت أظن أن اللجوء والاغتراب وجهان لعملة واحدة، لكن مخيمات اللاجئين في اليونان أظهرت لي وجها آخر للجوء لم أره قبل هذا، والحق أقول: لم أدخل مخيما قبل هذا!
تجلس أم سعد على باب المخيم. سعد ليس مفقوداً في أرض ما. هي تنتظر عودته بصمت. يركض الأطفال لاستقبالك صباحا. كل صباح، أنت الشيء الجديد الوحيد الذي يجدّ عليهم. أحيانا سيستقبلك بعض سكان المخيم الأكبر سنا، فأنت الشيء الوحيد الجديد كل صباح في المخيم. أما هم، فينتظرون فرجا من السماء أو اتصالا من «مفوضية اللاجئين»!
يركض طفل سوري ليخبر طفلا آخر: «الآنسة من فلسطين». يأتي أطفال لا تعرف أسماءهم. يشيرون إلى الطفل المنادى عليه «هو كمان من فلسطين». للوهلة الأولى تهم أن تسأل: «من وين من فلسطين؟»، لكنك تتذكر: ماذا يعرف هذا الطفل عن فلسطين أصلا إلا اسمها؟ فتأخذه من يده لتحكي له عن فلسطين.
مرة واحدة تحدثت لي أم سعد، بعد زيارتي الثانية للمخيم: «أنتم تأتون وترحلون، سياحة، أما نحن فلا شيء يجدّ علينا إلا البؤس!». تسحب حفيدها من يده ليذهبا إلى السوق، فقد وصلت حوالة مالية من سعد اللاجئ في ألمانيا، والآن يمكنها شراء القليل من الطعام الذي لا يحمل طعم اللجوء، لأن طعام المخيمات لا طعم له. حاولت ذات مرة أن آكل منه. لم أستطع إكمال اللقمة، كان لها طعم مر!
الخيام هي نفسها. لم تعد تفرق خيمة عن خيمة، لكن بعضها تطور وصار «كرفان» من حديد. أم سعد رفضت أن تسكن خيمة قديمة هذه المرة، وأصرت على أن تحصل هي وعائلتها على «كرفان». أعطوها واحدا لكبر سنها وطول لجوئها. تقاسمته مع عائلة ثانية.
الحقيقة أن الخيمة لو كانت من قماش أو غيره تظلّ باردة. تدخلها الرياح من كل صوب والمطر. المطر أكثر عدلا من الريح، لا يفرق بين خيمة وكرفان، يغرق الأولى من فوق والأخرى من تحت. لكن الشعور بتطور اللجوء أفضل من الرتابة.
مرة ذهبت أم سعد إلى مكتب الامم المتحدة في المخيم وطالبت بـ«صوبة» لتدفئة أحفادها، فطلبوا منها الانتظار، وقالوا لها أشياء لا تهمها. تمنت لو أتوا لها بـ«ميثاق حقوق الانسان لأحرقه وأدفئ به أحفادي... هذه الطريقة الوحيدة التي سأستفيد بها منه»!
جيل رابع من الفلسطينيين لاجئ للمرة الثانية على أقل تقدير. بعضهم للمرة الثالثة، وغيرهم لا تعلم عدد مرات لجوئهم. يرسم الأطفال علمين: الأول علم سوريا والثاني علم فلسطين. تحاول أن تنبههم إلى ما نسوه أو ما كان يجب أن يعرفوه، وهم يعرفون شيئين لا ثالث لهما: من أين جاؤوا، وسبل النجاة!
وحده الفلسطيني يحمل خيمته أينما رحل، لهذا هو أقدر على النجاة كلما فُرض عليه اللجوء من جديد. فقد طوّر الفلسطيني منذ ما يقارب السبعين سنة وسائل نجاة، الآخرون لا يملكونها. هو يورثها لأطفاله جيلا بعد جيل.
لا تختلف الخيم، لكن المخيمات تختلف. قد تتشابه أسماء اللاجئين لكن جنسياتهم تختلف. بعض الأسماء تُكتب في سجلات اللاجئين وبعضها يُمحى. اسم أم سعد لا يزال يتنقل من سجل إلى آخر في سجلات «مفوضية اللاجئين». وحده الفلسطيني لاجئ ثابت في كل السجلات!
تجلس أم سعد على باب المخيم. تنتظر رسالة من سعد الذي أقام في ألمانيا وصار يملك منزلا. هذه المرة لم يحمل أحد مفتاحه. كل المفاتيح ظلت وراءهم ـ لكن جميعهم حملوا صورا كي لا ينسوا، ولا يضلوا طريق البيت، إن عادوا.
رأيت رجالا جنّوا في المخيم، ومجانين صحّوا، أطفالا كان يجب أن يكبروا، تزداد أعمارهم يوميا دون أن يكبروا حقا، أطفالا كان يجب أن يبقوا اطفالا، كبروا قبل أوانهم.
لا قوانين في المخيم، وللمخيم قوانينه. يتعلم فيه اللاجئون النجاة فقط. ووحده الفلسطيني يعرف كيف ينجو في المخيم. سألني طفل ذات يوم: «بنفع أقدم لجوء بفلسطين؟». آخر أكد لي: «بس آخذ جنسية بأوروبا، رح آجي على فلسطين».
هل تكون أوروبا خيمتنا الأخيرة؟