لم يتردّد أبو محمّد الجولاني في الذّهاب إلى «أقصى» حدود الدّعم الممكن تقديمه لتنظيم «جند الأقصى»، أحدث الوافدين إلى قوائم الإرهاب الأميركيّة، وصنو تنظيم «داعش» في التّطرّف، فبادر إلى «احتضانه». الموقف الشائك الذي أوقع «جند الأقصى» نفسه فيه ووضعه في مهب حرب تصفية شاملة أعلنتها ضدّه «حركة أحرار الشّام الإسلاميّة» ومعظم المجموعات المسلّحة الوازنة، قدّم فرصةً سانحةً للجولاني ليعيد ترميم «جبهته». ومع تصاعد وطيس الحرب الدائرة بين «الأحرار» و«الجند» وجد الأخير نفسه معزولاً فطلب النّجدة من «فتح الشّام»، لكنّ الجولاني رفض مدّ يد العون من دون مقابل. ويؤكد مصدر «قاعدي» كبير لـ«الأخبار» أنّ «البيعة كانت شرطاً أساسيّاً وضعه الشيخ الجولاني مقابل تدخّله في المسألة، وله أسبابه في ذلك». يشرح المصدر أنّ «مبايعة الجند تأتي بمثابة خطوة أولى لإعادة توجيه بوصلتهم في الاتجاه الصحيح، ونعتقد أن الفاتح (لقب الجولاني) قادرٌ على أداء هذا الدور».
تعدّ بيعة جند الأقصى بمثابة عودة الفرع إلى الأصل
ويقول مصدر سوري مرتبط بـ«فتح الشّام/ النصرة» إنّ «المرحلة التالية ستتضمّن عرض النزاع بين الإخوة في الجند والأحرار على محكمة شرعيّة يرتضيها الطرفان، وننوي تقديم من تدينه المحكمة إلى القصاص العادل». ولا يرى المصدر أنّ «قبول البيعة» سيؤثّر في «النهج الجديد (المزعوم) للجبهة، فنحن لم نقل إنّنا تخليّنا عن منهج الجهاد، وكل ما في الأمر أنّ العلاقة التنظيميّة مع "القاعدة" قد ألغيَت». وأمس، دشّن الناطقان باسمي «النصرة» و«الأحرار» مقدّمةً لحرب كلاميّة يُتوقّع لها أن تتصاعد إلى حرب «بيانات رسميّة»، قبل أن «يجنح الطرفان إلى السلم». وفيما أعلن حسام الشافعي الناطق الرسمي باسم «فتح الشّام» أنّ «قبول البيعة» جاء بعد «التواصل والتشاور مع إخواننا في الأحرار»، ردّ أحمد قره علي المتحدث الرسمي باسم «الأحرار» بالقول «لم نُستشر بأي بيعة تخص جند الأقصى، وقرار استئصالهم اتخذته أحرار الشام بالاشتراك مع باقي الفصائل الثورية، ولن نتوقف عن واجب ابتدأناه معا».
ولا تبدو الخيارات كثيرةً أمام «أحرار الشّام» وحلفائها، بل تقتصر على اثنين: أوّلهما الرضوخ للأمر الواقع وحل المسألة بالطريقة التي يحاول الجولاني فرضها، وهو خيار من شأنه أن يعيد ترجيح كفة «فتح الشام» في صراع النفوذ الخفي. وستحاول «أحرار الشام» في هذه الحالة الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب مقابل الموافقة على قبول التحكيم. أمّا الخيار الثاني، فرفض الاعتراف بخطوة الجولاني، والاستمرار في التصعيد مع ما يعنيه هذا من توسّع المعركة لتشمل «فتح الشام» أيضاً، وهي خطوة لا تبدو الساحة مؤهّلة للإقدام عليها. وعلى الرغم من أن الموقف المبدئي الذي صدر عن معظم «القوى الفاعلة» يوحي بتشبثّها بمواقفها الداعية إلى «تصفية الجند»، المرجح أن خطوة الجولاني ستثمر تحقيق هذه «التصفية» بطريقة صوريّة عبر حل التنظيم كمسمّى، والإفادة من مقاتليه في إعادة التوازن لـ«الجبهة»، التي نزفت عناصر «مهاجرة» كثيرة بعد خطوة «فك الارتباط». المفارقة أنّ معظم العناصر المنشقة كانت قد اختارت «الجند» وجهةً لها، وكانت المعطيات المتوافرة توحي بأنّ مزيداً من الانشقاقات في طريقها للوقوع ليكون الحصاد من نصيب «الجند». (الأخبار العدد 2967).
وتتزايد فرص مسعى الجولاني في النجاح بفعل «مباركة» عدد من قادة «تنظيم القاعدة» وبعض «الرّموز الجهاديّة» لها. ولا يقتصر الأمر على مساعي السعودي، عبد الله المحيسني، أحد أبرز عرّابي «الجهاد في سوريا». وأكّد مصدر «قاعديّ» لـ«الأخبار» أنّ «عدداً من المشايخ قد باشر حملة اتصالات مكثفة مع الإخوة في الأحرار وبقية الفصائل لحملهم على قبول الحل المطروح، ومخاطر رفضه على الساحة الجهاديّة بأكملها». وتحظى «الرموز الجهاديّة» بتأثير كبير على «أحرار الشّام» رغم محاولة الأخيرة التعمية على الجوهر «الجهادي» المتأصّل فيها. ولا يمكن عدّ مسارعة زعيم «جبهة فتح الشّام/ النّصرة» بقبول «بيعة جند الأقصى» حدثاً مفاجئاً، ولا سيّما أنّ الأمر يُعدّ بمثابة «عودة الفرع إلى الأصل». ومن المعروف أنّ «الجند» و«النصرة» كانا حتى اندلاع «الحرب الأهليّة الجهاديّة» أشبه بجسدٍ واحد برأسين: أوّلهما الجولاني، والثّاني أبو عبد العزيز القطري مؤسس «الجند»، والشريك الأساسيّ في تشكيل «النصرة». ومع اندلاع الحرب بين «داعش» و«النصرة» حاول القطري «رأب الصّدع» من دون جدوى، فآثر العمل وفق مبدأ «النّأي بالنفس» وآثر الاستقلال بشكل كليّ عن «النصرة» رفقةَ حوالى ألف «جهادي» جلّهم من «المهاجرين». (الأخبار، العدد 2650).
بعد هزيمة «النصرة» أمام «داعش» بعونٍ خفيّ من «حركة أحرار الشّام الإسلاميّة» استمرّت العلاقات «الطيبة» بين الجولاني و«الجند»، كما بين الأخير و«داعش». الفارق الوحيد في علاقة «الجند» بشريكيه في التطرّف كان العلنيّة مع «النصرة» والسريّة مع «داعش». وبرغم أنّ «حركة أحرار الشام الإسلاميّة» قد دخلت على الخط مرّات عدّة، ومحاولة اجتذاب «جند الأقصى» إلى صفوفها، غيرَ أن «النصرة» دائماً ما كانت تكسب الرهان لمصلحتها بفضل عوامل عدّة على رأسها مجاهرتها بـ«النهج الجهادي» في مقابل ذهاب «الأحرار» نحو نهج ظاهرُه «ثوري» وباطنه سلفي «جهادي».