تظهر أرقام «دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية» أن هناك ما يزيد على 94 بالمئة من فلسطينيي الـ48 يعيشون في بلدات تعرف كبلدات مدينية (يزيد عدد سكانها على 2000 نسمة)، وهناك ما يزيد على 65 بالمئة يعيشون في بلدات تعرف بأنها مدينة وسطية «Intermediate Town» (قرية ــ مدينية، أو مدينية ــ قروية). هذه الأرقام تعني أن المجتمع القروي الفلسطيني الذي عاش قبل النكبة عام 1948، صار اليوم مجتمعاً مدينياً ويمر بمرحلة تمدّن يمارس فيها حالة من المدينة المشوّهة. وليس المقصود بمعنى المدينة المشوهة البناء الفيزيائي، بل بالمعنى الذهني والسلوكي والثقافي والاجتماعي للمدينة.
رفضا للوصاية لا تبلغ غالبية فلسطينيي الـ48 بالجرائم للشرطة الإسرائيلية

خلال ذلك، مارست إسرائيل ضد فلسطينيي الـ48 سياسة منهجية لإقصائهم من الحيز العام، كما ساهمت في تهجين شخصيتهم وهويتهم الجمعية وتحويلهم من مجتمع له مكوناته ومميزاته الاجتماعية والثقافية إلى أشلاء من الطوائف والقبائل.
وبرغم أن الفلسطينيين استطاعوا مواجهة بعض تلك السياسات، لكن سلطات الاحتلال لكونها الحجر الأساس في مفهوم «الدولة» كانت أقوى منهم، والآن صار فلسطينيو الداخل يرفضون حالة الوصاية الإسرائيلية عليهم. من مظاهر ذلك أنهم لا يبلغون عن جرائم العنف للشرطة، ويفضلون تدبر أمورهم بأنفسهم، لكنهم لم يستطيعوا حتى اللحظة وضع آلية واضحة لمواجهة ذلك، ولا حتى توفير الأدوات المناسبة لمقاومة العنف، وهو ما أدى في النهاية إلى حالة اليأس التي دفعت بعض الهيئات إلى مطالبة «الدولة» بالتدخل لتمتين المجتمع وتأمين الهدوء فيه.
وفي كتاب بعنوان «إرهاب مدني»، أعده الباحث في العلوم الاجتماعية نهاد علي، فكّك الكاتب ظاهرة العنف في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، موضحا أن لعملية التمدن والتخطيط القروي والحضري التي مر بها هذا المجتمع، دورا أساسيا في نشوء ــ أو على الأقل المساهمة ــ في ارتفاع العنف الاجتماعي على مختلف صوره.
وفق علي، ساهمت «الحارة» كمركّب عضوي فيزيائي واجتماعي تضامني داخل المدينة في تخفيف ظاهرة العنف، لأن النظام الذي كان سائداً داخل القرى الفلسطينية قبل الاحتلال هو نظام أبوي «بطركي»، الكلمة فيه لكبير العائلة/ المختار الذي مثلهم وينطق باسمهم، علماً بأن هذا النظام أدى في بعض الحالات إلى خلق اعتداءات وصراعات بين حمائل وعشائر رافقها قتل وتخريب، وخصوصاً بعد «معارك» الانتخابات التي تتمثل في الصراع على السيطرة أو التمثيل داخل البلدات الفلسطينية، لكن شكل الصراع وحجمه بين الحمائل تبدلا بعد تحول القرى الفلسطينية إلى مدن صغيرة، ومرورها في سيرورات ظاهرة التمدن والمَديَنة.
هذا التحول السريع من قرية صغيرة إلى شكل مدينة مشوّه سبب انفلاتاً اجتماعياً ضعف فيه النظام الأبوي، نتيجة لأسباب عدة، في مقدمها الازدياد السكاني الذي لم يكن بالإمكان الاستمرار في ممارسة الضبط التقليدي عليه، لذلك توزعت مركبات القوة بين مجموعات عائلية مختلفة، حدث بينها تنافس على موارد القوة داخل البلدة.
بعد ذلك، تبدّل مبنى الاقتصاد من الزراعي التقليدي المعتمد على الدعم الأسري والقوى العاملة في توفير موارد لاقتناء خدمات وتوفير حلول سكنية، إلى اقتصاد صناعي تجاري رأسمالي يعتمد على مبادرة الفرد وصراع بقائه، وقدراته التنافسية التي تتعدى حدود المجتمع المحلي. كذلك ساهم ارتفاع مستوى التعليم في نشوء علاقات تعتمد على النديّة لا التبعية، وخصوصاً أنه مصدر الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهو سبب في تطوير سلوكيات جديدة لا تقبل النظام الأبوي التقليدي. وبرغم أنها تدعو إلى التحرر منه، لا تملك أي منظومة بديلة واضحة.
تضاف إلى تلك الأسباب، حالة العجز الديموقراطي التي يعانيها فلسطينيو الـ48، حيث يوجد خلط بين مفاهيم الديموقراطية وممارستها من جهة، واستغلالها لنيل قوة تمثيلهم بواسطة ذوي المصالح الضيقة من جهة أخرى. ووفق الكتاب الصادر عن جامعة حيفا عام 2015، فإن هذا العجز ساهم في تطوير ظواهر عنف اجتماعي من نوع جديد لم يشهده المجتمع الفلسطيني من قبل، وخاصة الصراع على رئاسة وإدارة السلطة المحلية.
وبرغم أن الإحصاءات الرسمية تشير إلى انخفاض عدد الجرائم داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، مقارنة بالعربي الفلسطيني، ساهمت المعايشة والاحتكاك اليومي مع الآخر (الإسرائيليين)، والانفتاح عليه أحيانا، في فرض سلوكيات ومنظومات معينة أثرت مباشرة في شرذمة وتقطيع المجتمع العربي، خلال الاتصال المباشر معه في العمل أو مناطق الحيز العام، مثل: الجامعات، والدوائر الرسمية، وأماكن السهر.