في توقيت غير مناسب أبداً للحالة التي تعيشها السلطة الفلسطينية، قررت محكمة العدل العليا، التابعة للسلطة، أن تجري الانتخابات المحلية في الضفة المحتلة وحدها من دون قطاع غزة «غير المعترف بشرعية حكمه»، ومن دون القدس المحتلة التي كانت خارج الحسابات أصلاً.بعيداً عن الحديث عن واقع استقلالية القضاء الفلسطيني، أو مدى تعميق هذا القرار حالة الانقسام الداخلي، كيف يمكن لعاقل في مكان محمود عباس أن يوعز به في ظل حالة غضب شعبي كبير على مشاركته الأخيرة في جنازة شمعون بيريز، بل في ظل حالة من التخبّط في البيت الداخلي لحركته، «فتح»، التي صدر عن تفرعاتها بيانات وتصريحات ترفض فعلة عباس جملة وتفصيلاً؟ هل يطلق رئيس السلطة الرصاصات الأخيرة على حكمه، أم أنه لا يستمع إلا إلى نفسه؟
تزيد هذه القرارات حالة الغضب الشعبي، وآخر صورها في مخيم بلاطة الذي هتف فيه مشيّعون لأحد من قتلتهم الأجهزة الأمنية بإسقاط عباس، ولكنها من جهة ثانية تفتح الأبواب واسعة أمام كل منافسي عباس وأعدائه، خاصة من حركة «حماس» في غزة، وليس بأقل منها النائب المفصول من «حركة الرئيس» محمد دحلان ومن يتبعه من آخرين طاولتهم قرارات الفصل تحت ذرائع مختلفة، منها انتقاد مشاركة عباس في تشييع بيريز.
فتح الأبواب لا يعني أن الجمهور سينحاز إلى «حماس» ودحلان نكاية بعباس، في ظل أن لكل من هذه الأطراف سجلات مشكلات أخرى مفتوحة شعبياً، وليست بخافية على الفلسطينيين. فدحلان صاحب دور ومال مشبوهين أولاً وآخراً، و«حماس» مثلها مثل باقي الفصائل الفلسطينية لم تحرك ساكناً من الناحية العملية، واكتفت بالاستنكار الذي ملأ «فايسبوك» و«تويتر» قبل أن تصدر بيانات الاستنكار التنظيمية... ولها في غزة وجه سيّئ للحكم، وإن لم يكن على الصعيد الوطني.
هل يطلق عباس رصاصات أخيرة على حكمه أم أنه لا يستمع إلا إلى نفسه؟

بما أن الحالة كذلك، وموقع مثل «المصدر» الإسرائيلي يتحدث ــ عبر مصادر فلسطينية ــ عن «زيادة تأمين وحماية الرئيس عباس» خوفاً على الرجل بعد الخطوة «البطولية» التي فعلها، فإنه فعلاً لا خوف على عباس من شيء، لا من تحرك فصائلي ولا جماهيري، ما دام «كبار اللاعبين» قد انتظروا طوال هذه السنوات موت عباس موتاً طبيعياً كي تتغير قواعد اللعبة ــ لعبة السلطة والحكم ــ ورضوا بأن يضيع من عمر القضية والشعب سنوات وهم يناورون عباس فيها، مرة بضرب صوره بالأحذية، ثم يعاودون مصافحته في اليوم التالي.
هذا حتماً سيمهّد لفصل جديد من القمع السلطوي في الضفة، الذي بات رأسه، «أبو مازن»، يضرب بسببه كل من حوله خبط عشواء. من كان يتخيّل أن تُفصل من «فتح» النائبة نجاة أبو بكر ــ من الضفة ــ التي كانت ترى في محمد دحلان «شيطاناً»، وهي اليوم قد تصطف إلى جانبه بسبب خطوات عباس المجنونة، ومعها وجوه فتحاوية بارزة كنعيمة الشيخ علي وعدلي صادق وتوفيق أبو خوصة، وثلاثتهم من غزة؟ كذلك تُتوقع خطوات أكثر قساوة بحق «الجبهة الشعبية» التي باتت سيفا مسلطا ــ ولو كلامياً ــ على خطوات عباس، من داخل بيت «منظمة التحرير».
لكن، تقابل المأساة «الوطنية» في الضفة أخرى معيشية مرتبطة بقرارات سياسية غير صائبة في قطاع غزة. هناك السكان تزداد تأوّهاتهم من «شهداء الحصار» يوماً بعد يوم، وشركة الكهرباء صارت جزءاً من اللعبة السياسية بلا أي اعتبارات إنسانية حقيقية. ماذا قدمت «حماس» غير الحديث عن «عصابة التنسيق الأمني» والتعليق على خطوات عباس الأخيرة (جنازة بيريز والانتخابات)؟ لقد قدمت الحركة الإسلامية شيئاً جديداً بالفعل في الأيام الأخيرة، هو اعتذارات رئيس مكتبها خالد مشعل مع وعود بالصمود أكثر في أي حرب مقبلة. رغم ذلك، ماذا تغيّر هذه الاعتذارات، أو ما درج على تسميته المراجعات الداخلية، من الواقع السوداوي؟
منذ أيام، انطلق المحللون في كيل المديح لتلك اللفتة الكريمة من نموذج الإسلام السياسي في غزة ــ وهو بالتأكيد لم ولن يكون نموذجاً يحتذى ــ بتقديم مراجعة أفضت إلى أنه كان من الخطأ اعتبار أن الزمن صار «زمن حماس»، وأنه كان لا بد من مشاركة ــ حقيقية ــ لا مغالبة. هذه المراجعة التي أجراها مشعل، وكان بجانبه إسماعيل هنية الآتي من غزة، جاءت تحت إطار ندوة بعنوان «التحولات في الحركات الإسلامية» في العاصمة القطرية الدوحة، ولكن يبدو أنها لن تتعدى الخطوة الأولى من خطوات «التوبة» المعروفة في الفقه الإسلامي، وهي الإقرار بالذنب. أما رد المظالم إلى أهلها والعزم على تجنّب الخطأ وسلوك مسار جديد... فحلم بعيد المنال، وأفضل ما يمكن لـ«حماس» تقديمه هو الاعتذار، على أهميته.
الآن، لا تزال «حماس» متمسّكة بإجراء الانتخابات ما أمكن، خاصة أن التشرذم الفتحاوي هو لحظة الانتصار الحمساوي، بغض النظر من هو عباس، الذي فعلاً تفاجئنا الفصائل الفلسطينية كأنها اكتشفت أن «أبو مازن» هو غير الرجل الذي رسم أوسلو مع بيريز.... ثم شارك في جنازة صديقه، تماماً كما فعلت في سوريا، حينما اكتشفت بعد سنوات طويلة أن هناك «نظاماً عربياً متسلطاً»!
أما عن القدس، التي ابتُليت بدفن جثمان بيريز فيها، فلا عزاء لأهلها سوى أنها تبقى عاصمة بالاسم. المدينة المحتلة دوماً خارج الحسبة الفلسطينية، رغم أنها تدفع ثمناً عالياً في الفاتورة، والأرقام تطالعنا أنه خلال عام كامل على الهبة الشعبية الجارية، سجّلت 2355 حالة اعتقال في صفوف الفلسطينيين من أحياء وقرى القدس، أكثر من نصفها بحق الأطفال والشبان.