صنعاء | لم يكن أحد يتخيل أن ينتهي المطاف بالحزب الاشتراكي اليمني الذي نشأ إثر ثورة ضد الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن، إلى تأييد عدوان سعودي مدعوم أميركياً. الحزب الذي تأسس منتصف سبعينيات القرن الماضي على أسس شيوعية، تقلّص ليصبح مجرد حفنة من النافذين البرجوازيين المرتمين في أحضان «الامبريالية العالمية» و»قوى اليمين» في المنطقة، وفي مقدمتها السعودية وحلفاؤها في الداخل اليمني، لنشهد قبل نحو أسبوع أمينه العام، ياسين نعمان، يؤدي اليمين الدستورية أمام الرئيس الفار عبد ربه منصور هادي، بعد تعيينه سفيراً في بريطانيا. فكيف جرى هذا التحوّل؟ وكيف رمى الحزب العقائدي بمبادئه، محوّلاً قاعدته الشعبية إلى أفراد محرجين من حال حزبهم، من بينهم من يعد باستعادة الحزب من قبضة «العصابة» التي تقوده، على حدّ وصف أحد مناصريه.
يرى القيادي الاشتراكي السابق أحمد الحبيشي في حديثٍ لـ «الأخبار» أن الحزب الاشتراكي الذي حكم دولة اليمن الجنوبي حتى عام الوحدة، «عجز عن تبني برنامج ناضج ومتكامل ‏للاصلاح الاقتصادي والسياسي عام 1989، قبل عام من الوحدة، بسبب تصدّي ‏بعض قياداته لأي توجه لتحرير ‏الاقتصاد من سيطرة الدولة المطلقة، وتخفيف قبضة الحزب على ‏المجتمع والأحزاب السياسية، والسماح بحرية الصحافة والتعددية ‏السياسية والحزبية»، مضيفاً أنه كان في مقدمة تلك القيادات رئيس الوزراء قبل ‏الوحدة ياسين نعمان».
بناء على فتوى تكفير، جرى اغتيال 159 من قيادات الحزب آخرهم الشهيد جار الله عمر

يقول مؤرخون ان الاشتراكي، برغم تمكنه من «الدخول إلى قلوب» الجماهير اليمنية في الشمال بعد الوحدة اليمنية، لم يتمكن من الحفاظ على تماسكه كحزب شيوعي، حيث تمكنت قوى اليمين التي كانت تحكم شمال اليمن وتسلّمت زمام قيادة دولة الوحدة، من تفكيكه وتقسيمه إلى تيارات وولاءات، حتى انخرطت بعض قياداته في كشوفات «اللجنة الخاصة السعودية»، وباتت تتسلم رواتبها من الرياض. وفي وقتٍ كانت فيه بعض قيادات الاشتراكي تتعرض للتصفية في صنعاء عبر الاغتيالات قبيل «حرب 1994» على يد قوى تابعة لحزب «الإصلاح» («الاخوان المسلمون») كانت بعض قياداته الأخرى قد وقعت في «حبائل» قوى صنعاء، وخصوصاً «الاصلاح» و»المؤتمر» (الحزب الحاكم) التي تمكنت من تدجينه تماماً.
من جهةٍ أخرى، لا يمكن تجاهل حقيقة أنه، وبسبب طبيعة الشمال القبلية والمتدنية، فقد الاشتراكي ذو الايديولوجيا الشيوعية جزءاً من شعبيته وكوادره، وخصوصاً في ظل الشحن الديني الذي كان يكفّر الشيوعيين في المنابر قبيل حرب 1994 التي اندلعت بعدما رفضت قيادة الحزب بقيادة الرئيس السابق على سالم البيض السكوت عن ممارسات قوى صنعاء. وبعد عدد من المعارك التي اندلعت بين قوات موالية لصنعاء وأخرى موالية للاشتراكي، أعلنت قيادة الأخير بقيادة البيض انفصال الجنوب. يعتقد الحبيشي أن الأزمات السياسية التي شهدتها المرحلة الانتقالية بعد الوحدة (1990 ــ 1993) كان من أبرز صنّاعها، «الاخوان»، تحديداً حزب «الإصلاح» ‏واللوبي الإخواني داخل «المؤتمر»، إلى جانب الأوليغارشيات العسكرية ‏والقبلية والدينية المرتبطة بالسعودية من جهة، والأجنحة اليمينية داخل ‏»الاشتراكي»، التي يرى الحبيشي أنها انتصرت بعد «حرب الانفصال».
بعد الوحدة، أصبح الحزب طرفاً في النظام، إلى جوار «الإصلاح» و»المؤتمر الشعبي العام»، وبتمثيل لا يتجاوز 26% من البرلمان الذي نتج من أول انتخابات برلمانية يمنية في عام 1993. رأس الحزب ياسين سعيد نعمان، قبل أن يصبح بعد حرب 94 أحد أحزاب المعارضة، من دون أي تمثيل في برلمان 1997 بعد مقاطعته الانتخابات النيابية، ثم عاد ليشارك في البرلمان الثالث بعد الوحدة. انتخب عام 2003 بنسبة تمثيل لا تتجاوز 2.33%، ليصبح بذلك ضمن القوى غير فاعلة في المشهد السياسي. وفي حين يعزو البعض ذلك الى استبداد النظام في صنعاء بالمقاعد وسيطرته على الدوائر، فإن البعض الآخر يعتقد أن ذلك يعود إلى أداء الاشتراكي وتخليه عن الكثير من ثوابته أمام ثنائية الإغراءات والضغوط التي فرضها الواقع الجديد على قيادته التي باتت منقسمة بين منفيين وتابعين للنظام وللسعودية.
من جهته، يرى الناشط الاشتراكي اليساري، عبد الوهاب قطران، أن الحزب «بدأ في التراجع عن مواقفه ومبادئة الماركسية عقب الحرب التي انتهت بهزيمته وفرار قيادته إلى سلطنة عمان والامارات والسعودية، وبعدما واجه حملةً شرسة من اليمين الرجعي متمثلاً في حزب «الاصلاح»، اتسمت في تكفيره واستباحة دماء قياداته. آنذاك، وبناء على فتوى تكفير، جرى اغتيال 159 من أبرز قياداته آخرهم الشهيد جار الله عمر.
وكان الاشتراكي قد عقد خلال السنوات التي تلت الحرب عدداً من المؤتمرات لتنظيم وضعه حيث اضطرته التحالفات الجديدة الى تغيير عدد كبير من أدبياته. فاتفق مع قيادات البرلمان اليمني الموحد على مراجعة بعض معتقداته الخاصة بالدين وحق القوميات وإدانته لـ «حرب الانفصال» مستنداً إلى مقررات المؤتمر العشرين للأحزاب الشيوعية. وبهذا أصبح الحزب قريباً للأحزاب الاشتراكية الديموقراطية منها إلى تلك الشيوعية. ويرى البعض أن اغتيال جار الله عمر عام 2002 برصاص عنصر إخواني متطرّف، كان بمثابة «إجراء ضروري» لانضمام «الاصلاح» الى ائتلاف «اللقاء المشترك» (الذي ضم عدداً من أحزاب المعارضة لصالح) والتحالف مع الاشتراكي، ليعيش الحزب مرحلة من التخبط، يعود إلى تحالفه مع حزبٍ تفرّقه عنه خلافات أيديولوجية عميقة. «الاشتراكي تحالف مع اليمن الرجعي الذي كفره وشنّ عليه حرب وثبت انه متورّط في اغتيال قيادته»، يقول الناشط اليساري، عبد الوهاب قطران، الذي يشير إلى «الاصلاح»، مضيفاً أن هذا التحالف تطور ليصبح «زواجاً كاثوليكياً» فقط بسبب التوحّد حول العداء لصالح.
استمر الحزب الاشتراكي في تحالفه مع «الاخوان المسلمين» وبعض الاحزاب الوطنية، وصولاً إلى المشاركة في انتفاضة شباط 2011، حين احتلّ الحزب بقيادة ياسين نعمان واجهة المشهد. انطلاقاً من هنا، يرى الأمين العام المساعد لحزب «الحق»، محمد المنصور، أن الحزب، وبعد مشاركته في حكومة «الوفاق» الناتجة من المبادرة الخليجية، «بدأ بالميل نحو المهادنة لقوى الفساد والتطرّف في الاستحواذ على السلطة وتقاسمها». وفي حين أكدت وثائق أن نعمان وبعض قيادات الحزب كانوا يتسلّمون مبالغ شهرية من اللجنة الخاصة السعودية، يعتقد قطران أن تحالف الاخوان والاشتراكي توطد خلال موجة «الربيع العربي»، لافتاً إلى أنه جرى استقطاب قيادة الاشتراكي إلى الدوحة التي استقبلت نعمان أكثر من مرة في السنوات الماضية. هناك، يتابع قطران، «جرى شراء ذمم قيادات الاشتراكي، وجرى اختراق الحزب من قبل الاخوان واللواء الفار علي محسن الاحمر والقيادي الاصلاحي حميد الأحمر بالتنسيق مع إمارات النفط الرجعية»، وهو ما يتفق معه المنصور الذي يشير إلى أن «هادي والإصلاح قد استطاعا عبر مجموعة من الانتهازيين داخل الحزب تدجين خطاب الحزب ومواقفه وخطابه الاعلامي الذي تبنى ومنذ ثورة حركة أنصار الله في أيلول الماضي، موقفاً متحيزاً ضدها. وفي الفترة التي تلت «ثورة أيلول» واستطاعت «أنصار الله» قلب موازين القوى السياسية في اليمن، ومع انطلاق الحوار الداخلي برعاية الامم المتحدة، اتسم الحزب بالضعف وبالالتزام بالسياسة السعودية بصورةٍ كاملة (بعد المصالحة السعودية القطرية).
عند اندلاع العدوان السعودي على اليمن، أيدت قيادات الاشتراكي عملياته، قبل أن يشارك ياسين نعمان في «مؤتمر الرياض» بصفته إحدى الشخصيات المؤيدة للتحالف. يعلّق الحبيشي على موقف الاشتراكي من العدوان بالقول إنه «من الطبيعي أن يصل الحزب الى هذا المآل، أي أن يصطف بعد عشرين سنة من التخبّط والأخطاء، إلى جانب القوى المنخرطة في المشروع الاميركي الصهيوني لإعادة صياغة خارطة الشرق الأوسط، ويستهدف ضرب وتفكيك الدول والجيوش الوطنية العربية، وإغراق ‏المنطقة في أتون حروب طائفية دموية».