لا تنفصل الغارات الأميركية على مواقع الجيش السوري في دير الزور عن رغبة واشنطن في تثبيت منطقة نفوذ لها في الشمال السوري. فبعيداً عن «الهدنة» وتطبيقها وربطها بمناطق النزاع مع «المعتدلين» في انتظار «فك الارتباط» بـ«القاعديين»، تعمل أميركا على تحويل الشمال السوري (من عفرين إلى الحدود العراقية) إلى ساحة «هادئة» خارج سياق الاشتباك الدولي المفتوح. وتُعتبر الضربة أيضاً اختباراً لرد فعل موسكو ودمشق على أساس أنهم قد «يبلعان» ما حصل. لكن في الحقيقة، تُريد واشنطن إضعاف الجيش السوري في الدير تمهيداً لإخراجه من «الخدمة» لتعود عبر وكلائها إلى كسب الميدان وحدها في مواجها «داعش»، إذ لمدينة دير الزور رمزية كبيرة، فالمنطقة الحدودية مع العراق وإحدى نقاط إثبات وجود الدولة السورية في شرق البلاد تقف حجر عثرة في وجه «الفيضان» الكرديالقادم من ريفي الحسكة والرقة، وفي وجه إحياء واشنطن ذراعاً «عربية» من مقاتلي عشائر وغيرهم.
تعدّ مدينة دير الزور
إحدى نقاط إثبات وجود الدولة في شرق البلاد

إذاً، تهدف واشنطن، بالتزامن مع إطلاق المرحلة الثالثة لعملية «درع الفرات» التركية في ريف حلب الشمالي، الى كسب كل ورقة الشمال... وليكون أي تفاوض مقبل لا يشملها، ولتبقى السخونة والنزف الميداني والبشري والمؤسساتي في المناطق التي يقاتل فيها الجيش السوري.
«التحالف» الأميركي ينجز خطوات متزامنة تحقيقاً لغايته. من هذه الخطوات إخلاء الشرق من أيّ وجود للجيش في دير الزور، وجاء ذلك مثلاً عبر إفقاد الجيش نخبة من مقاتليه في أكثر مواقعه أهمية وتحصيناً في جبل الثردة من خلال استهدافه، وعجز التنظيم عن الوصول إليه، وبالتالي السيطرة عليه تجعل مطار دير الزور في مرمى نيران «داعش»، الذي سيعمل على السيطرة عليه، ما سيسهل عليه لاحقاً السيطرة على كامل المدينة.
وفي خطوة أخرى، يستمر تعزيز الوجود الأميركي المباشر، عبر إنشاء قاعدة عسكرية في منطقة المالحة في بادية الدير، وتمكين «قوات النخبة» التابعة لتيار «الغد السوري»، برئاسة أحمد الجربا، والتي قوامها الأساس من عشيرة الشعيطات الديرية، تمهيداً لاستخدامهم لتوغل أميركي يبدو وشيكاً باتجاه ريف دير الزور، بعد إنجاز السيطرة على بلدة مركدة، آخر مواقع «داعش» في ريف الحسكة الجنوبي، والذي يشن «التحالف» وحلفاؤه هجمات عليها.
تريد أميركا أن تبقى
السخونة في مناطق وجود الجيش السوري

ورغم تداخل المشهد في الشمال في ظلّ العداء الكردي ــ التركي، يعمل «المايسترو» الأميركي على تقسيم مناطق النفوذ بين الطرفين بإدارته وتخطيطه، مقدّماً بعض الإغراءات لأنقرة مقابل ضبط إيقاعها ووضع ضوابط تحرّكها وحجمه.
وتتواتر المعلومات عن تحشّد للأتراك على جانبهم من الحدود مع تل أبيض (ريف الرقة)، بهدف تأكيد «أحقية» أنقرة في وراثة مناطق «داعش» وما سيطر عليه الأكراد شرق نهر الفرات.
مصدر مقرّب من «الجيش الحر» أكد لـ«الأخبار» أنّ «استعدادات ضخمة تجرى لشن هجمات واسعة على الوحدات الكردية على الشريط الحدودي، بهدف إنهاء مشروع حزب pyd في المنطقة». وأضاف أنّ «معسكرات الجيش الحر في تركيا تشهد إقبالاً كبيراً للمقاتلين من أبناء المنطقة الشرقية، للمشاركة في العمليات العسكرية، التي من المتوقع أن تبداً بعد إنجاز السيطرة على (بلدة) الباب (في ريف حلب)، ومنع الأكراد من الالتفاف لربط مناطق سيطرتهم في عفرين بعين العرب». يأتي ذلك مع إعلان المجموعات المسلحة المدعومة من تركيا المرحلة الثالثة من عملية «درع الفرات»، التي تهدف الى السيطرة على الباب وإنهاء وجود «داعش» فيه، بمشاركة خبراء أميركيين. العملية أدت حتى الآن إلى اقتراب المجموعات المسلحة إلى مسافة تقل عن 7 كلم عن الباب، بالتزامن مع نقل مسلحي «داعش» عوائلهم والسجناء، باتجاه السبخة ومدينة الرقة.
الأميركيون في هذا السياق يسعون الى توحيد العدوين التركي و«الوحدات» الكردية (أي «قوات سوريا الديموقراطية») في معركة الرقة، والتي يتحدث «البنتاغون» عن إطلاقها قريباً. إلا أنّ الأكراد استبقوا ذلك بالإعلان على لسان رئيسة «مجلس سوريا الديموقراطية» إلهام أحمد، أن «قسد» لن تقاتل إلى جانب الأتراك في الرقة، حتى لو سار الأميركيون بسيناريو كهذا، فإننا لن نسير به».
وقد تكون معركة الرقة المشكلة الأساس أمام واشنطن في ظلّ صعوبة تأمين عديد بشري كافٍ لخوض معركة ضخمة كهذه، ورفض الأكراد المشاركة من دون «حصة»... لكن بعيداً عن إسقاط «عاصمة الدولة الإسلامية» من عدمه، يسير المشروع الأميركي من أقصى الغرب السوري إلى الحدود العراقية بخطوات ثابتة وخطيرة.