تذكرت المثل الشائع بين أهلنا في صعيد مصر القائل: «يأكل مع الديب ويحزن مع الراعي»، وهو مثل شائع في مصر كلها، وكذلك في بعض الأقطار العربية. تأمّل أمثالنا العربية يكشف عن عمق الثقافة الشعبية العربية، ومدى مساهمتها في وحدة المزاج ووحدة الذائقة، ومن بعدهما وحدة الموقف والسلوك. ما ذكرني بهذا المثل هو علمي بخبر شراء رئاسة الجمهورية المصرية أربع طائرات رئاسية من طراز فالكون 7X، وكانت صحيفة «لاتربيون» الفرنسية قد نشرت خبر تعاقد القاهرة مع شركة «داسو» الفرنسية بغرض شراء هذة الصفقة. وكما هو شائع ومعتاد، جرى تكذيب الخبر من الوكالة الرسمية المصرية («وكالة أنباء الشرق الأوسط»). لكن الغريب والمثير أن التكذيب المنشور من الوكالة الرسمية جاء على لسان شركة «داسو» نفسها.لكن، «لأن أولاد الحلال مخلوش لولاد الحرام حاجة»، كما يقول المثل الشائع، بحثوا وتحروا عن موقع شركة «داسو» واكتشفوا عدم صدور أي بيانات من الشركة، ثم ظهر الإعلامي الملاكي لسيادة الرئيس في برنامجه قائلا: لقد جرى شراء هذة الطائرات الأربع بغرض تشغيلها والاستثمار فيها.
رغم فيضان النكت التي خرجت من مواقع التواصل الاجتماعي كتعبير عن السخرية من فكرة تشغيل طائرات رئاسية والاستثمار فيها، كان أكثر تلك النكت انتشارا يتحدث عن أن الرئيس سيجعل خط سير الطائرات من التحرير إلى الاتحادية، في إشارة لخطوط سير الميكروباصات.
بالطبع، نشرت بعض المشاهد لمحتويات الطائرات الفخمة جدا، إذا صح هذا الخبر؛ وفي ظني أنه صحيح، لأسباب تخص دراسة الشخصية وطريقة تفكيرها وسلوكها. جميعنا نتذكر كيف قدم الرئيس مشروع سيارات النقل كي يتشارك الشباب فيها ويكون هذا هو حل مشكلة البطالة، ونتذكر أيضا قول الفريق مميش الذي أعلن فيه أن فكرة مشروع تفريعة قناة السويس (أو قناة السويس الجديدة كما يدعون) أخبرها للرئيس عبر التليفون وجاء رد الرئيس في الصباح بالتليفون أيضا دون أي دراسات جدوى. كما نتذكر قول الرئيس نفسه إن هذا المشروع لرفع الروح المعنوية للشعب فقط. ونتذكر جميعا اختراع الكفتة الذي عرف بهذه التسمية بين الشعب المصري.
لعل إنشاء العاصمة
الإدارية نموذج على اتخاذ
القرار الفردي

من منا لم يسمع نداء الرئيس السيسي للمصريين: «صبحوا على مصر بجنيه»، كأن ذلك هو سبيلنا للادخار من أجل التنمية، ومن منا لم يرَ الرئيس جالسا مع وزير أو أكثر ليخرج علينا بعدها الإعلام متحدثا عن مشروعات قومية متعددة لم يحدث منها أي شيء. لعل مثال قرار إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة نموذج جلي كي نكتشف طريقة اتخاذ القرار الفردي، الذي لا يعلم أحد من يشارك الرئيس في تحمل مسؤليته.
مشاريع كثيرة يجري الترويج لها ولا نجد إلا الرئيس في كل مشاهدها من أول الفكرة إلى التنفيذ الذي دائما ما يفاجئنا الرئيس بأنه يعلم فيه أكثر من المتخصصين ولا سيما المدة اللازمة لإنجاز أي مشروع، فبدلا من ثلاث سنوات تصير سنة واحدة، وبدل سنتين تكون 6 شهور
أيضا نتذكر جميعا عندما أعطى الرئيس للفريق عسكر عشرة مليارات لتنمية سيناء ولم نعرف حتى الآن هل استلمها أصلا الفريق عسكر أم لا، وهل صرفت وفيم صرفت وماذا بقي منها. ولماذا نذهب بعيدا ونذكر كل تلك الأمثلة؟ هل هناك في مصر وخارجها من لا يعلم كيف جرى التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية دون أي مناقشات وبقرار منفرد للرئيس، ثم بعد ذلك، هل علمنا ماذا حدث أو لماذا أو قام أحد من النواب بدوره الرقابي... أم النواب يخافون من رئيس المجلس الذي فهم دوره ودور السلطة التشريعية والرقابية على أنها سلطة تابعة للسلطة التنفيذية... أمثلة عديدة لو دققنا وتحرينا، فسنجد عشرات غيرها.
الغريب أنه بعد كل ذلك يحدثنا الرئيس عن محدودي الدخل كما كان اللص المخلوع مبارك يحدثنا أيضا. لقد اعتادوا إعطاء إشارة للشمال ثم الدخول في اليمين، فها هي فواتير الجباية (كهرباء وغاز ومياه) تصل إلى أرقام فلكية، ثم يخرج علينا وزير الكهرباء ليؤكد أن من يمتلك ثلاجة لا يستحق الدعم، ثم طبعا يخرج لينفي هذا القول كما هي العادة.
من المؤكد أن الشريحة الأولى (دعم الكهرباء) جرى رفع سعرها، وهي المفترض أنها شريحة مدعومة، وفي تقديري لا بد أن يستبدل الشعب المصري الثلاجة بالزير الفخاري، ويستبدل الكهرباء بلمض الجاز، وإذا جرى ذلك، على السلطة أن تفرح بإنجازها القومي، وهو إعادة المصريين ومصر إلى عصور الجاهلية الأولى، وأقصد هنا جاهلية الحضارة لا عكس دين التوحيد.
بعد كل هذا، اشترت الرئاسة أربع طائرات! بالتأكيد هذا حدث، ولم لا، فالشعب المصري جمع في أيام قليلة 64 مليار جنيه لتفريعة القناة، ولم يسأل أي شخص أين صرفت ولا كيف.
فإذا كان الشعب بهذا الثراء، فلماذا لا يشتري الرئيس أربع طائرات وعلى الشعب ألا يسمح بتشغيل تلك الطائرات إلا للرئيس وحده. من المعروف أننا شعب كريم نكرم الضيف وبالطبع نعطي ما نملك لأهل البيت... والرئيس مش غريب.
يكفي أن أذكركم بأن الذين نهبوا ثروات البلاد طوال 30 سنة ــ هي حكم المخلوع مبارك ونجليه وحسين سالم وحبيب العادلي ورشيد محمد رشيد ويوسف بطرس غالي وغيرهم كثر تجري معهم الآن مصالحات بالقانون، آه والله بالقانون – سيتكرمون علينا ويتركون لنا بعض أموالنا ويحتفظون بالباقي ونضمن لهم الأمن والحرية. أما المواطنون البسطاء، وهم أغلبية الشعب المصري الذين يدفعون الضرائب وتفرض عليهم الرسوم والدمغات من أجل تحسين أحوال القضاء والشرطة والقوات المسلحة، فهكذا تكون العدالة الأمنية ويكون الأمن معهم، عادلا في ظلمه!
هل عرفتم الآن لماذا تذكرت المثل «يأكل مع الديب ويحزن مع الراعي». انتظروا المزيد من ضرائب الجباية وفواتير مص دماء المصريين، وإذا كان كذلك، فعلى المصريين الذين بشرونا بناصرية السيسي أن يعتذروا للشعب المصري، وإذا لم يعتذروا، فعلينا أن نضع قوائم سودا بأسماء كل من تورطوا في ترويج تلك الدعاية الاستخبارية كي تعرفها الأجيال المقبلة.