حتى الأمس القريب، كان المجتمع الإسرائيلي، مع تعدده، يحمل في طياته عامل استقرار ناتجا من غلبة عددية لمكون ضد المكونات الأخرى. أغلبية واضحة صهيونية علمانية، مقابل ثلاثة مكونات أخرى تمثل أقليات: صهيونية دينية، ومتدينين حريديم، إضافة إلى فلسطينيي عام 1948، مع تقسيم ثابت لجهة الشرقيين والغربيين، ضمن الضابطة والاحتواء الوارد سابقا.هذا الواقع القائم على احتواء الاختلاف، وفق تعبير الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، في مؤتمر «هرتيسليا» قبل أشهر، يتوجه نحو تغيير جذري؛ تظهر معطيات تعداد تلاميذ المؤسسات التربوية في إسرائيل، تحديدا ما يتعلق بالصفوف الابتدائية، مسار تغيير يفضي إلى فقدان العلمانيين أغلبيتهم التي كانت سائدة حتى الأمس: 38 بالمئة من التلاميذ يتلقون تعليمهم في مؤسسات تربوية وفق النظام الإسرائيلي (مدارس خاصة ورسمية)، وهؤلاء هم علمانيو المستقبل، لكن هناك 15 بالمئة من المتدينين الصهاينة يدرسون في مؤسسات تعليمية ذات نظام خاص، أي تطور عددي خطير لهذه الفئة، و25 بالمئة هم من فلسطينيي 1948 مع أنظمة تعليمية خاصة بهم، فيما 22 بالمئة هم الحريديم، يدرسون في مؤسسات تعليمية ذات نظام خاص مغاير يشبه أنظمة التعليم في القرون الوسطى، وهو عدد يزيد، ويقرب من الثلث، ضمن الدائرة اليهودية دون العرب.
هذه النسب تدل على حجم الشرائح الأربع واتجاه تعدادها داخل المجتمع الإسرائيلي، خلال سنوات معدودة فقط. وتغيب الأغلبية، بلا أقليات واضحة. وفق كلام ريفلين: «مبنى الملكية للمجتمع الإسرائيلي ودولة إسرائيل، تتغير أمام أعيننا». وفي الترتيب النسبي والتوزيع العددي للشرائح الأربع، والأقليات بلا أغلبية، ثمة اتجاه نحو التنافس الحاد، وليس الأخذ ومزيد من المكاسب، بل على أسس مغايرة عما كانت عليه في السابق: فرض الإرادة والرؤى الاجتماعية والقيم، وأيضا الرؤى السياسية، بما يعرف بـ«لعبة صفر نتيجة، بين اللاعبين»، أي كل مكسب وفائدة لفئة، تكون على حساب الأخرى.
تخسر الفئة العلمانية أغلبيتها بنحو النصف من 80% إلى 40%

وتلك الأهداف، التي بدأت تجد تعبيرها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، بل داخل المؤسسة العسكرية، من أهم العوامل التي تدفع للتحذير من إمكانات كامنة للاحتراب الداخلي، وهو احتراب لا تزال مكوناته غير موجودة ومتعذرة على المدى المنظور. وإذا كان وجود أغلبية يدفع الأقليات الهامشية إلى الاكتفاء بالمطالبة بحقوق وبتحسين أوضاع، مع التسليم للأغلبية بأن تقود الدولة ومؤسساتها، فإن فقدان الأغلبية في ظل حالة شبه مساواة عددية بين أقليات، من شأنه أن يعبر عن نفسه بالتفرقة ومحاولة وضع اليد على الدولة، وخاصة أن لكل فئة ثقافتها وتطلعاتها، التي تتعارض مع الفئات الأخرى.
إحدى الشرائح، وهي العربية، غائبة تماما عن دائرة التأثير وقاصرة عن «الأخذ»، فيما أن الثلاث الأخرى مجمعة على الإضرار بها وإبقائها خارج الدائرة، ثم تتنافس الثلاث في ما بينها: العلمانيون والصهاينة الدينيون والحريديم، وكلهم مشغولون في صراع البقاء والإضرار البيني، حول الميزانيات والموارد والتعليم والبنى التحتية الخاصة بهم. وكل فئة تعمل لوسطها هي دون وسط الأخرى. وبينما تسعى جميعا إلى مزيد من المكاسب لبيئتها، ترى أن الإضرار بمكاسب الفئات الأخرى، مكسب إضافي ومطلوب لذاته، لكن، إذا بقي هذا المشهد واستمر ــ سيتنامى بفعل التغيير العددي ــ فسيصير طبقا لتريفلين، «ديناميكية مدمرة أكثر».
وبالتفصيل، فإن الفئة الحريدية (المتدينة) تنقسم إلى فئات: حريدي شرقي، وحريدي غربي، إضافة إلى فئات حسيدية (متصوفة) معظمها غربي إشكنازي، مع تشعبات واسعة جدا. أدت هذه الفئة ولا تزال، دورا سلبيا في إسرائيل اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، لكن كان بالإمكان التعايش معها وتحمل أعبائها لقلة عددها النسبي ومحدودية تطلعاتها وأهدافها، في المراحل الماضية. سعت الحريدية إلى تحصيل مكاسب من الدولة بلا واجبات: لا يخدم شبانها وشاباتها في المؤسسة العسكرية والأمنية، ولا يتعلم أولادها ضمن المناهج الرسمية، كما لا تشارك في الدورة الاقتصادية (العمل والإنتاج)، ومعظم رجالها ونسائها متعطلون عن العمل، يدرّسون أو يدرسون الشريعة اليهودية في المدارس والمعاهد الدينية. وهذه الفئة، ستصل خلال سنوات إلى ربع التعداد السكاني لإسرائيل، وإلى ما يزيد على الثلث بين اليهود، وتقتات بما يرد من الدولة من مساعدات مالية ومخصصات إعانة للعائلات ودور التعليم والخدمات الصحية، عبر نزعها ابتزازا بواسطة الاتفاقات الائتلافية بين أحزابها والحكومة. وهي ائتلافات، للمفارقة، لا يمكن الاستغناء عنها لدى أطياف الحكم العلمانية.
حتى الأمس، كانت أهداف الحريدية مركزة على اتجاهين: تحصيل مكاسب مالية واقتصادية من الدولة بلا أعباء، ومنع سن قوانين تؤذي وجودها وبيئتها وثقافتها، مع الحرص على مواصلة عيشها وثقافتها وتوريثها بحرية تامة. التطور الذي طرأ على أداء هذه الفئة، هو أنها لم تعد تكتفي بردع التعرض لها ولبيئتها، وبتحصيل الفائدة الاقتصادية بلا عمل، بل تتوجه نحو فرض هذه الثقافة على الدولة ومؤسساتها، وأيضا على الفئات الأخرى، الأمر الذي يجد تعبيراته بصورة متزايدة في السنوات الأخيرة. ومن المرجح وفق التحذيرات، أن تزيد وتيرته، بل قد يصل إلى حد الفرض بالقوة، مع زيادة عديد هذه الفئة وتناميها للسنوات المقبلة. تكفي الاشارة، للدلالة على تخلف هذه الفئة، والنفور بينها وبين الآخرين، إلى أن المناهج التعليمية لديها ــ المدعومة ماليا من الدولة والعلمانيين ــ تحرم تدريس المواد العلمية (رياضيات وكيمياء...) باعتبارها هرطقة.
أما الصهيونية الدينية، فكانت حتى وقت قريب محدودة العدد، وجل نشاطها مقتصرا وموجها نحو الاستيطان في أراضي عام 1967، ولا يزال كذلك مع تمدد حضورها وتشعبها داخل يهود أراضي 1948. هذه الفئة، المتدينة، تختلف عن الحريديم، في أنها تنظر إلى إسرائيل باعتبارها دولة يهودية لا تخالف الشريعة اليهودية، ولا تغتصب «حق المسيح» في إقامتها. ووفقا لهذا الموقف، تأتي أفعالها. ودوما كانت الصهيونية الدينية رديفة للعلمانيين، وحوفظ عليها برغم تطرفها، لمواجهة موقف الحريديم شبه الجارف بين المتدينين الرافضين للدولة. وهي اكتسبت اسمها من كون أتباعها يؤمنون بالفكر الصهيوني، وتشريع تأسيس الدولة الصهيونية بلا ضرورة انتظار ظهور المسيح آخر الزمان.
وهذه الفئة، ترى أنها «أم الصبي» لجهة تأسيس الدولة وبقائها، وتطالب بضرورة إبقاء كل أرض يصل إليها اليهود واحتلالهم، بما يشمل بطبيعة الحال أراضي الضفة وقطاع غزة، وهم يرفضون مطلقا أي تنازلات للفلسطينيين. على هذا التوجه، تأتي أفعالهم، ومن بينها أفعال «غير سوية» ضد اليهود الآخرين، لأنها في الأصل تنظر إلى الذات نظرة القيمومة على الدولة وأنها أعلى من القوانين الإسرائيلية، وبإمكانها تجاوزها لمصلحة الصهيونية والاستيطان. ويرون أنهم أصحاب حق في توصيف اليهود بالخونة أو بحد أدنى «كارهي الذات» ممن يعارضون تطرفهم الزائد. وينظر الباحثون الاجتماعيون في إسرائيل إلى هذه الفئة على أنها أولى الفئات التي ستسعى، لاحقا، إلى فرض إرادتها بالقوة على البقية، بناء على الأيديولوجيا الدينية والتعصب والفاشية التي تتصف بها، ضد اليهود وغير اليهود.
فقدان الأغلبية فئة ما سيقود إلى محاولة سيطرة أخرى على الدولة

بالاتجاه إلى الفئة العلمانية. التي طبعت الدولة بطابعها الغربي والعلماني. فإنها تنتقل لجهة المكانة والتأثير من الأغلبية الساحقة، 80 بالمئة في العقود الأولى لتأسيس الدولة، إلى ما يقل عن 40 بالمئة خلال السنوات المقبلة، كما تدل الإحصاءات والدراسات. وتعيش هذه الفئة على أمجاد الماضي ونجاحاتها، لكنها تواجه تنامي الجماعات الأخرى، التي كانت لوقت قريب أقليات هامشية. مع اتجاهات التقلص، تعاني العلمانية خلافاتها الداخلية التي تزيد انقسامها وتمنع توحدها، الأمر الذي يضعها دائما في محل ابتزاز للفئات الأخرى، ضمن صراعها وتنافسها البيني على السلطة بين مكوناتها: اليمين واليسار والوسط.
وبرغم أن هذه الفئة مسيطرة إلى حد بعيد، حتى الآن، على مؤسسات الدولة، وخاصة الأمنية والعسكرية، فإنها تعاني مزاحمة الصهاينة الدينيين، الذين ينخرون المؤسسات ويعملون على تحويل طابعها العلماني باتجاه الصهيونية الدينية وتمظهراتها المتطرفة والفاشية، ضد اليهود وغير اليهود، لكن غياب/منع مشاركة اليهود المتدينين وفلسطينيي 1948، في مؤسسات الدولة، وخاصة المؤسسة العسكرية، يقصر دائرة المنافسة في المدى المنظور وعلى طابع هذه المؤسسة، بين الفئتين الأخريين، ويقدر أن تستعر في المراحل اللاحقة: بين العلمانيين (من اليمين واليسار والوسط) دفاعا عن الطابع السائد، مقابل الصهاينة الدينيين، مع توجه هجومي لفرض توجهات أكثر تطرفا مع «جبلّة» دينية، على هذه المؤسسات.
لكن، بناء على المعطيات وتقويم الوضع القائم داخل المجتمعات الإسرائيلية المتعددة ومحدداتها، يصعب تقدير الحدود التي ستصل إليها تداعيات الانقسامات الموجودة، مع أن القدر شبه المتيقن أن المعطيات ومساراتها الظاهرة لن تفضي بالضرورة إلى حرب أهلية، فيما تؤشر ــ بقوة ــ الى أن الصيغة الإسرائيلية القائمة حاليا لن يكون بمقدورها احتواء الاختلاف والانقسامات، في ظل تناميها وتجذرها.
وما بين صفر تداعيات، وحرب أهلية، كسيناريوهي تقدير متطرفين للآتي ويصعب تصورهما، توجد مروحة واسعة من الفرضيات، من المتوقع أن تكون محلا لتظهير الخلافات وانعكاساتها وتداعياتها في إسرائيل المستقبلية. الأشد، والاكثر حضورا وتظهيرا، ستكون المواجهة ما بين العلمانيين والمتدينين: بين الدفاع عن الوجه الحالي للدولة، وبين الهجوم المقدر أن يشنه المتدينيون لتغييره عبر وسائل مختلفة، وهي فرضيات بدأت تظهر بقوة إلى العلن، حتى في المرحلة الحالية.
ومن المتوقع أن تشهد إسرائيل تملص سيناريوهات متطرفة تصل إلى حد استخدام القوة وخرق الستاتيكو القائم، لكن من المستصعب التقدير بأنها ستكون جامعة. ومن المتوقع أيضا أن تبقى في دائرة الفعل المقلص والمحدود، أكانت هذه السيناريوهات المحدودة ذات تأثير واسع، على شاكلة اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين، عام 1995، ولا يمكن منع تكرارها بمستوى أو بآخر في المدى المنظور، أو عمليات ذات تأثير محدود، ستكون هي الصورة الأكثر غلبة لسيناريوهات متملصة كهذه.