يستحوذ الصراع بين رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير المواصلات، يسرائيل كاتس، حول أزمة القطارات، على اهتمام المؤسسة السياسية والاعلامية في إسرائيل، بل تحولت هذه القضية إلى واحدة من القضايا الخلافية داخل الائتلاف الحكومي. هذه الأزمة كانت قد نشبت نتيجة الموافقة على زيادة أعمال الصيانة في القطارات بما يؤدي إلى «تدنيس يوم السبت»، بعدما كانت خدمة السكك الحديدية لا تعمل في هذا اليوم، بموجب اتفاق «الوضع الراهن» في إسرائيل، الذي بموجبه تُحافظ المؤسسات العامة على «قدسية السبت».على خلفية هذه الأعمال، احتجت الأحزاب الحريدية في الحكومة، وطلبت من نتنياهو إيقاف الأعمال في السبت فورا، وهدد بعضها بالاستقالة من الحكومة، لكن أزمة السبت تستحضر قضية العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل، وتمثّل تجسيدا فعليا للصراع بين التيارات العلمانية التي تستند إلى أغلبية شعبية، والقوى الدينية، وتحديدا الحريدية، التي تستند إلى قوة سياسية مؤثرة في القرار السياسي.
قوة موقف الأحزاب الحريدية تنبع ايضا من اتفاق «الوضع الراهن»، الذي تلتزمه الدولة منذ احتلال فلسطين عام 1948، ويجري من خلاله تنظيم العلاقة بين الأحزاب الدينية والدولة، ومنذ ذلك الوقت «يجب الحفاظ على يوم السبت في جميع المؤسسات الوطنية». واستنادا إلى سوابق متعددة، مثَّل الموقف من التعطيل يوم السبت، قضية خلافية بين ممثلي الأحزاب الحريدية وآخرين. ودوما، تضمنت الاتفاقات الائتلافية مع الأحزاب الدينية إعلان الالتزام بهذا الاتفاق باعتباره المنظم للعلاقة بين الدين والدولة.
في المقابل، تسعى وتحاول الجهات العلمانية إلى تجاوز القيود المتصلة بيوم السبت، لكن في كل مرة كان التجاهل عنوان الموقف بسبب الخوف من مخالفة «الوضع الراهن». وعلى خط مواز، عادة تواجه الأحزاب الدينية أي محاولة حادة لخرق الاتفاقات التاريخية بالتهديد بالاستقالة من الحكومة. مع ذلك، يوجد على هامش هذه الصيغة، التي تحكم الأداء السياسي الرسمي منذ عقود، من يطالب بالمزيد من خطوات العلمنة، مقابل جهات تعمل على توسيع نطاق وتأثير القوى السياسية الدينية في القرار الرسمي، وصولا إلى الطموح بفرض تطبيق الشريعة التلمودية، وهو ما يؤدي إلى استقطابات حادة بين القوى الإسرائيلية، لكن الدينية منها ترى أن دورها ــ المشاركة في الحكومات الإسرائيلية ــ يكمن في الحفاظ على «الوضع الراهن»، والطابع اليهودي للدولة.
تحت هذا الصراع خلاف مخبأ بين نتنياهو وكاتس

على ضوء هذا الانقسام، يحرص المتدينون جدا على «قدسية يوم السبت»، فيعدون الوجبات الفاخرة مسبقا، ويحددون مسبقا المصابيح التي تبقى مضاءة، ولا يطفئونها خلال اليوم كله. في المقابل، يتعامل العلمانيون مع السبت على أنه يوم لإجراء الرحلات وزيارة المطاعم والترفيه، ومشاهدة الأفلام والتلفزيون. في السياق نفسه، تتميز الأحياء السكنية للمتدينين، وخاصة الحريديم، بالهدوء يوم السبت، فلا تسير السيارات في الشوارع ولا يتحدث الناس بالهواتف. ويتشدد الحريديم خاصة بالتزام التعليمات المتصلة بالسبت، وتغلق الأحياء التي يسكنونها بواباتها كي لا يسمح لأي شخص أو سيارة بالدخول، لكن أكثر الإشكالات كانت تنشأ في المدن المختلطة.
لذلك، يلاحظ وجود فرق كبير بين المدن ذات الطابع الديني، مثل القدس المحتلة، التي من الصعب العثور فيها على مطاعم مفتوحة يوم السبت، وبين تل أبيب، التي تعج شواطئ البحر فيها بالمتنزهين.
أما على المستوى السياسي، فجسدت أزمة القطارات السياسة الابتزازية للأحزاب الحريدية، التي تمكنت من إخضاع نتنياهو لمطالبها، لأنه يحتاج إلى بقائها في الحكومة من أجل استمرارها. وعلى الأقل عدم التسبب في أزمات داخلية، وخاصة أن الاستقالة ليست من مصلحة هذه الأحزاب أيضا، كما أتى تراجع نتنياهو امتدادا لمواقف مشابهة تراجع فيها عما سبق أن سنَّه، سواء في ما يتعلق بالمخصصات الاجتماعية، أو مخصصات المؤسسات التعليمية، للأحزاب الحريدية، أو القانون الذي فرض عليهم التجنيد الإجباري في الجيش.
تنبع قوة هذه الأحزاب، كون موقفهم ومشاركتهم في الحكومة أمرا حاسما في استمرارها على خلفية قاعدتها البرلمانية الضيقة، وتحديدا في ظل الصراعات والتناقضات والتنافسات التي تسود العلاقات بين أطرافها؛ على هذه الخلفية، أصدر نتنياهو تعليماته بإيقاف الأعمال في خطوط السكك الحديدية يوم السبت الماضي. على خلاف توصيات الشرطة، لأنّ إيقاف القطارات يؤدي إلى ازدحامات مرورية ضخمة وتعطيل وسائل النقل في مناطق واسعة في إسرائيل، كذلك أدى ذلك إلى نشوب احتجاجات شعبية واسعة ضدّ قراره، وإلى اتهامه بأنّه «خضع» للحريديين، الذين يمثّلون 10% من السكان فقط، من أجل الحفاظ على منصبه وعلى حكومته. مع الاشارة الى أن موقف المحكمة العليا في غير مصلحة نتنياهو..
على خط مواز، تدعي جهات مقربة من نتنياهو أن وزير المواصلات أمر عمْدا بتنفيذ أعمال الصيانة في خطوط السكك الحديدية يوم السبت من أجل إنشاء هذه الأزمة، وليُظهر نتنياهو أمام الجمهور باعتباره شخصا يخضع لمطالب الحريديين. ويعود ذلك، إلى الخلاف السابق بين نتنياهو وكاتس، بعدما قاد الأخير مسارا هدف إلى المس بسلطة الاول في رئاسة الحزب، وتمثل بتعيين مستشار قضائي جديد لسكرتارية «الليكود»، ما سيُضعف تأثير المستشار القضائي المقرب من نتنياهو.
وتسعى أيضا الى تقييد نتنياهو في اجراء تعيينات ذاتية، واجباره على موافقة لجنة الحزب، الأمر الذي دفعه إلى استدعاء كاتس لمحادثة توبيخية، أدت إلى تراجع الأخير عن موقفه. منذ ذلك الحين، ترددت المعلومات عن أن نتنياهو ينوي إقالته، لكن مع اندلاع «أزمة القطارات»، انتشرت بعض التقديرات عن أن نتنياهو سيستغل هذه الفرصة من أجل إقالة كاتس انتقاما منه، وبما يُظهر كأن الحريديم هم من طلبوا إقالته، فيما تحدثت المعطيات الأخيرة عن غياب هذا الخيار حتى الآن.