كما هو معروف، انقسمت الجماعات الإسرائيلية إلى غربي وشرقي، وعلماني ومتدين، وتقسيمات أخرى ضمن هذا التقسيم الرباعي، ضاعفت التقسيمات وزادت منها. مع ذلك، لم تؤد هذه التقسيمات إلى خطر أنذر بحرب أهلية، كما يحذرون حاليا.تحرك الاختلاف السابق بين مكونات المستوطنين، ضمن ثابتة التسليم بغلبة فئة على فئات. الدولة ممسوكة من الاشكناز، مع التشديد على طابعها العلماني وثقافتها الغربية، مقابل إقرار وتسليم الفئات الأخرى، الشرقية والمتدينة، بالطابع العام الإشكنازي ــ العلماني لهذه الدولة. الشرقيون، بصورة عامة، وهم المكون الأكثر حضورا إلى جانب الإشكناز من ناحية إثنية أو عرقية، نظروا إلى أنفسهم نظرة دونية، وتحركوا ضمن هدف التقليد وتحوير الثقافة والتراث للتعايش ومحاكاة الفئة الحاكمة ومحاولة جسر أو إزالة الفروق، بالتخلي عما أمكن من هوية الأصل والابتعاد عنها باتجاه الهوية الغربية.
بقيت المؤسسة الأمنية بعيدة عن تداعيات الصراع القديم ما أمكنها

وفي الطريق إلى ذلك، كان التمييز قائما ضد الشرقيين، لكن رد فعلهم كان شبه مقتصر على المطالبة بإزالة هذا التمييز، فكلما اقتربوا أكثر نحو التغرب، تقلصت الإشكالية، لكن هذا الاختلاف لم ينشئ صراعا على هوية الدولة، كما لم يطمح الشرقيون إلى شرقنتها، الأمر الذي منع عن الاختلاف التحول إلى خطر وجود.
في موازاة ذلك، عانت إسرائيل اختلافا وتقسيما آخرين، بين العلمانية والتدين، وهو الوجه الآخر والأكثر حدة للانقسامات الماضية، التي لا تزال حاضرة بقوة حتى الآن. هذا الانقسام جاء امتدادا طبيعيا لخلافات يهودية ما قبل إعلان الدولة حول أصل مشروعيتها دينيا ورفض الشريعة اليهودية إقامتها. فكما هو معروف، يشترط المتدينون، بصورة عامة، قيام الدولة على يد المسيح في آخر الزمان، وإلى أن يظهر، فإن كل محاولة لإقامة الدولة، فضلا عن إقامتها بالفعل، هي هرطقة وتجاوز للشريعة، لكن «حكمة» الاتجاه العلماني، وقلة عدد المتدينين وطلبهم المنفعة، سمحت جميعها بتسوية تتيح العيش في إسرائيل مع إبقاء موقفهم المبدئي من الدولة، والأمل لدى العلمانيين، في إمكانية تليين موقفهم لاحقا.
على شاكلة ونتيجة الانقسام بين الشرقيين والغربيين، لم يصل هذا التقسيم إلى حد الصراع على الدولة وهويتها، بل نظر العلمانيون إلى وجود المتدينين نظرة الضرورة والرمز اليهودي الذي يتيح جلب المزيد من اليهود من الخارج، من دون تشكيل خطر على الهوية، لقلة عددهم ومحددوية فعاليتهم، فيما نظر المتدينيون ــ بعد التسوية معهم وإعطائهم حقوق مواطنة من دون واجبات ــ نظرة الاستفادة من كيان ناشئ، بلا تطلع إلى تغيير طابع الدولة وهويتها، بسبب التعذر والحرمة الدينية.
لكن، يمكن للبعض المجادلة بأن عقود القرن الماضي شهدت ما يشبه الانتفاضات على أساس عرقي وإثني، بين اليهود الشرقيين والغربيين، كما يمكن المجادلة بأن القرن الماضي شهد ترجمة للانقسام على شاكلة تكتلات سياسية وغلبة طابع إثني على أحزاب سياسية من دون أخرى... لكن كل هذا الانقسام، لم يجد تعبيرا له في تغيير طابع الدولة، أو صراعا خارج إطار اللعبة والعملية السياسية القائمة والمترسخة في الكيان الناشئ.
كذلك، كان الاتجاه العلماني، الإشكنازي الغربي، هو السائد والمهيمن، وكما ورد يقابله تسليم شرقي... ثم برزت محاولات، محدودة وهامشية، ومنها ما كان متطرفا، لكنها لازمت التأثير الهامشي ولم ينسحب حضورها المقلص انقساما في المجتمع يعبر عنه نفسه عبر العنف ورفض الآخر اليهودي ضمن مسار احترابي.
طوال المدة الماضية، وضمن الانقسام الموجود بالكيفية المشار إليها، بقيت المؤسسة الأمنية بعيدة عن تداعياته، وهي المؤسسة التي حافظت على علمانيتها، وكونها «بوتقة الصهر» الرئيسية لكل الجماعات الإسرائيلية. صحيح أن الشريحة المتدينة لم تكن ممثلة ومنخرطة فيها، وهي ليست حاليا ضمن التسوية التي سادت ولا تزال بين الجانبين (تجنب المتدينين الانخراط في الجيش)، وهو ما جنب هذه المؤسسة نقل التداعيات داخل المجتمع إليها، رغم تأثرها سلبيا، من ناحية موازية، بامتناعها عنها.
إضافة إلى الحريديم، يلازم المشهد الإسرائيلي حضور شريحة مقابلة متدينة تخالف الرأي العام الجامع لدى المتدينين، تحديدا ما يتعلق بإمكانية إقامة دولة من دون المسيح، وهي تسمى «المتدينيون الصهاينة». هذه الفئة كانت تتماهى حتى الأمس القريب مع العلمانية السائدة في الجيش والمؤسسة الأمنية، واستطاعت أن تليّن موقفها الديني ليتماشى مع الوضع القائم. كان صراع هذه الفئة، تحديدا مع الشريحة المتدينة على مشروعية موقفها وأعمالها إلى جانب العلمانيين، أكثر من كونه صراعا على الدولة، مع العلمانيين أنفسهم على طابع الدولة، التي تماهت معهم.