لم يكن تحذير رئيس «الموساد» الإسرائيلي السابق تامير باردو، قبل أيام، من تنامي الخطر الداخلي الإسرائيلي وإمكاناته الكامنة في الدفع، كما قال، نحو «حرب أهلية داخلية»، أول تحذير يصدر من تل أبيب. مسار الانقسامات والتعارض داخل المجتمع الإسرائيلي، بما يشمل القيم والتطلعات والأهداف والنظرة إلى الآخر والدولة ومؤسساتها، بات يتوجه نحو بلورة مسار متطرف، وهو انقسام وتشظّ على مستوى القواعد ورأس الهرم، لكنه وصل أخيرا إلى المؤسسة العسكرية وبدأ ينخر فيها، ما من شأنه أن يقود إلى «الأخطر».بالطبع، لا تعني تحذيرات باردو، الذي أنهى ولايته قبل أشهر فقط، أنها دليل على مسار أكيد لحرب أهلية وتفتتِّ إسرائيل، كما لا يعني بالضرورة، تبني ما ذهب إليه كنتيجة متوقعة، لكن موقفه التحذيري، إلى جانب مواقف إسرائيلية مشابهة في المرحلة الأخيرة، تؤشر الى واقع تفاقم فيه الغليان الداخلي والتناقضات إلى الحد الذي تجد فيه «الصيغة الإسرائيلية» صعوبة في التعامل معه ولجم سيناريوهاته المتطرفة. لقد كان باردو واضحا جدا في تحذيره... «اجتاز المجتمع الإسرائيلي حافة انقسام معينة، والمسافة تتقلص للوصول إلى حرب أهلية، ونحن نسير في هذا الاتجاه».
سبق باردو في التحذير، الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، وقبله أيضا وزير الأمن السابق ايهود باراك، وكذلك رئيس أركان الجيش، غادي ايزنكوت، وعدد كبير من الخبراء والباحثين، كما أفردت مراكز البحث مؤتمرات خاصة لمعالجة «هذا التحدي» ومحاولة وضع خطط للحؤول دونه.
أما تحذير ريفلين، فورد في كلمة خلال مؤتمر «هرتسليا» الأخير، لكنه بدلا من استخدام مصطلح «الحرب الأهلية»، استعمل مصطلحا ملطفا في وصفه الواقع المأزوم: «إسرائيل أمام مفترق طرق». وضع ريفلين الإصبع على مكمن العلة والأسباب بقوله إن الانقسام في المجتمع الإسرائيلي قائم على مستوى الخيار والهوية والتطلعات، وأيضا الكيفية التي تسعى إليها فئاته في تحقيق خياراتها وتطلعاتها، مؤكدا أن الانقسام بات يتحرك ضمن «قبائل أربع» يتألف منها المجتمع الإسرائيلي: الشريحة العلمانية، والدينية الصهيونية، وتلك الدينية الحريدية، إضافة إلى عرب إسرائيل/فلسطينيي أراضي عام 1948.
القراءة التي نقدمها الآن، لا تعبر، ولا تريد استئناف التعبير، عن اتجاه ساد الكتابات العربية في العقود الماضية حول الداخل الإسرائيلي وانقساماته، بناء على تبويب بلدان المنشأ، في محاولة للتدليل على هشاشة التجميع العرقي والإثني في إسرائيل. مع ذلك، يبقى بحث الانقسامات كما كانت سائدة في الماضي، مدخلا ضروريا لفهم مستوى وجدية الانقسام الحالي، ومنسوب خطره على إسرائيل.
ما الذي أتاح للمشروع الصهيوني، والدولة الوليدة عنه، أن يستمرا بلا تهديدات حقيقية داخلية حتى الآن، برغم التسليم بوجود انقسامات حادة داخله؟ وما الذي يدفع الآن، للتحذير من خطر الانقسامات؟ الإجابة لا تستقيم من دون عرض الماضي لفهم سبب «التملص» من تداعيات الانقسام الأول، فيما يأتي التحذير الحالي، من الانقسام الثاني.