لا زلت في مكاني، أحاول أن أضيّع الوقت المتبقي الذي لا أعلم مدته بالاستماع لأغاني الفرق العربيّة، استمتعت لألبوم جديد كامل اسمه "مليون" غنّته فرقة جدل الأردنية. اقترحها عليّ صديق لي قبل يومين من انطلاقي. وقبل الذهاب كان من ضمن تجهيزات السفر أن أرتب قوائم متنوّعة من مختلف الأغاني لجوليا بطرس وكاظم الساهر، وألبومات فيروز التي جمّعتها أثناء دراستي الثانوية، كلّها لم أشأ أن أفارقها. ربما سأنتظر على المعبر أو في قاعات المطار، وساعات أخرى بالتأكيد سأنتظرها في الطائرة حتى أصل إلى وجهتي. هذا ما قالته لي أمي التي جرّبت أن تسافر سابقاً للعلاج.كنت أجلس مع صديقي الذي اقترح الأغاني عندما أعلنوا فتح المعبر بشكلٍ مفاجئ. قالوا إنّه سيفتح يوميّ السبت والأحد، وقد كنت أنتظر لمدة طويلة أن أنطلق إلى الجزائر كي أكمل دراستي هناك. كنت خائفاً جداً أن تضيع عليّ أيام من الدراسة، فهنا لا يُمكن لأحد أن يعرف مواعيد فتح المعبر أو إغلاقه، كلّ شيء كما يبدو بمزاج الحاكم العسكري، قد يبدر له القرار أثناء فطوره ذات صباح، كما قال أخي وهو يتذمّر من مشكلة المعبر.
بقيت هنا لساعات طويلة أنتظر في صالة المعبر من الجانب الآخر. حاولت مواساة نفسي، أنني على الأقل تجاوزت نقطة هامّة ومرحلة صعبة جداً، فالساعات العشر التي انتظرتها في صالة الانتظار من الجانب الفلسطيني لم تكن هيّنة. حرّ الشمس، التزاحم الكبير، رائحة عرق المتزاحمين، الصراخ الكبير، إلى جانب المشهد المأساوي الذي كنت أراه، أبناء وآباؤهم المرضى، الكل يطلب الرجاء أن يكون الشخص القادم وأن يتم إخراجه من هذه المحنة.
حاول ضميري التخلي عني مرّة لأجل الناس، يوسوس لي كشيطان، اترك مجالاً لرجل مسنّ كبير غيرك، أنت شاب وقادر على الانتظار. لكن حياتي ومستقبلي كانا ينتظرانني على الجهة الأخرى، طردا الشيطان المُسمى الضمير، وقالا لي إنّ ساعة واحدة قد تكون كفيلة بعودتي للانتظار أسابيع طويلة جديدة في غزّة حتى يُفتح المعبر مرّةً أخرى، وحينها يكون قد ضاع عليّ فصل دراسي كامل.
هنا الكل مرمي على الكراسي وآخرون على الأرض. كلنا انتظرنا ساعات طويلة، وكلنا كنا نخوض المعركة على شبّاك إدارة المعابر، ننتظر الموظف البائس كي يختم الأوراق وينادي الأسماء. ننتظر أن يقرّر لنا الخروج. محمد... أحمد... سالم...محمد.. وغيرهم. إلى الحافلة الثالثة، نجري جميعاً كي نلحق الحافلة حتى لا تضيع علينا، رغم أنّ ذلك غير ممكن أبداً، لكنّها الفرصة التي جاءت وقرّرت فجأة أن تأتينا كفرصة دخول الجنة بعد ساعات طويلة على الصراط.
لا زلنا نجلس.. قالوا إنّ العربات ستنقلنا إلى مطار القاهرة من هذه الصالة، ما يهوّن الأمر أنّنا هنا نجلس، ولا نقف كما كنّا خلال الساعات الماضية، البعض استغلّ الوقت في النوم وغيرهم في التفكير، مثلي، رُبما فيما هو قادم، أو فيما مضى، الناس، الأهل، الأصدقاء والذكريات التي علينا تجميعها في ساعات التفكير المشابهة لهذه، كي نأخذ عليها إطلالة في حياتنا القادمة الجديدة. سيبدو الشعور غريباً جداً، لن نكون كما أيّ مغترب آخر في غير بلده. نحب الناس والأهل ونحب الأزقة التي تربينا فيها، نحب الشوارع، شارع النصر ورائحة قهوة مزاج التي تملأه، نحب فلافل الصباح الذي كنا نهرب من المدرسة كي نشتريه من أبو طلال، وأوراق الشجر المرمي في الطرقات، الذي يذكّرنا بمحاولاتنا القفز في شارعٍ بجانب المدرسة، لرؤية فتاة خارجة من مدرستها على الجانب الآخر، لكننا في الوقت نفسه نخاف أن نعود إليها، أنّ نعود للسجن الكبير الذي يحبس أحلامنا.
الجانب الآخر، نعم، قالت لي أمي إنّ ما ينتظرني هناك كثير. لا زلنا ننتظر، سننُقل إلى غرف الترحيل، غرف صغيرة نتكدس فيها، نتعفن، بروائحنا وأجسادنا التي عانت ساعات طويلة، حتى يُسمح لنا أن نكون في المطار، حتى نصل هناك نحن خطر على الأمن القومي، لن يسمح لنا برؤية أقاربنا في مصر أو زيارة صديق تركنا منذ سنوات إليها، من المعبر إلى غرفة الترحيل إلى الطائرة، المهمة الوحيدة هي الانتظار، الذكريات على الهامش، وعلى الهامش الآخر قلقٌ طويل مما هو قادم.