في مذكراته، يروي وزير الاقتصاد الأشهر خلال العقود الخمسة الماضية الدكتور محمد العمادي، أنّ وزارة التموين وقّعت مع بداية عقد السبعينيات عقداً لتصدير كميات من القمح، وذلك قبل أن تتأكد من كفاية الموسم لتأمين احتياجات البلاد، وتدرس التوقعات الخاصة بتحرك الأسعار العالمية. يضيف العمادي أنّ رئيس الجمهورية حافظ الأسد علم بذلك فطلب إيقاف الصفقة، ومن ثم أصدر قراراً، بعد ارتفاع أسعار القمح عالمياً آنذاك بنحو 25%، منع بموجبه من تصدير أي كمية من القمح، إلا بعد أن يكون هناك مخزون يكفي الاستهلاك المحلي لمدة عامين. وهذا ما دفع الحكومة في حينه إلى بناء المزيد من الصوامع بقرض من الصندوق الكويتي للتنمية.لم يسر الأمر لاحقاً على محصول القمح فقط، بل امتد ليشمل الاحتياجات الرئيسية في حياة المواطن السوري، وأصبح الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الغذائية والدوائية يماثل في أهميته وسريته الاحتياطي الوطني من العملات الأجنبية، ويتم التعامل معه كجزء من الملفات التي تمسّ الأمن الوطني. وكما يشير رئيس الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية الدكتور منير الحمش، في حديثه إلى «الأخبار» فإن «العمل بتكوين الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الغذائية بدأ مع الخطة الخمسية الثالثة (1971-1975)، ليشمل السلع الغذائية الرئيسية من قمح وطحين وسكر وأرز. وقد كانت مدة الاحتفاظ بالاحتياطي تختلف تبعاً للسلع والمنتجات، فاحتياطي المحاصيل المنتجة محلياً كان لموسم واحد، أما بالنسبة إلى السلع المستوردة فإن مدة الاحتفاظ بالاحتياطي تصل إلى ثلاثة أشهر». ويضيف الحمش، وهو الذي عمل في السبعينيات مديراً لأكبر مؤسسة حكومية تعنى بتوفير السلع الاستهلاكية للسوريين، أنّ «سياسة تكوين الاحتياطي تعرضت لاختبار ناجح خلال فترة حرب تشرين، إذ لم تشهد الأسواق المحلية في جميع المناطق نقصاً بأي سلعة، بل كان هناك فائض مريح على الصعيد الشعبي، لدرجة أن أكياس الطحين كانت تترك على الأرصفة أمام أبواب الأفران، من دون أن تتعرض للسرقة أو يمسها أحد».
لكن ذلك النجاح في إدارة تأمين احتياجات العائلة السورية لم تكتب له الاستمرارية في فترة الثمانينيات، إذ تعرضت البلاد لحصار اقتصادي خارجي خانق، وإلى تراجع كبير ومؤثر في كميات الإنتاج المحلي، الأمر الذي أوصل البلاد إلى مرحلة، لم يكن لديها ما يكفي من مادة الطحين لإنتاج الخبز إلا لبضعة أيام. معاناة قادت لاحقاً وبمتابعة رئاسية مباشرة إلى التأسيس لثورة زراعية قطفت سوريا ثمارها بوضوح خلال فترة التسعينيات، والعقد الأول من القرن الحالي. وبحسب ما يذكر الخبير في اقتصاديات الزراعة حسان قطنا، فإن المجلس الزراعي الأعلى «عقد آنذاك عدة اجتماعات لدراسة الآليات الواجب اتخاذها لتنفيذ توجيهات رئيس الجمهورية، وقد تم اتخاذ عدة قرارات وإجراءات؛ كان أهمها وضع السياسات الزراعية اللازمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الإنتاج الزراعي لجميع السلع، التي يحتاج إليها السكان والحد من الاستيراد، فضلاً عن التوسع بإنتاج القمح، وتوفير مخزون استراتيجي منه يكفي حاجة الاستهلاك المحلي لخمس سنوات، وتم تقديره بنحو خمسة ملايين طن من القمح».
العمل بتكوين الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الغذائية بدأ عام 1971

وبفضل تلك الإجراءات، وغيرها التي طبقت في مجالات عدة كالري واستصلاح الأراضي والدعم المباشر للمزارعين، فإن «الفجوة المتشكلة بإنتاج القمح في الثمانينيات، تراجعت خلال الفترة الممتدة من عام 1991 إلى 1995، وتوقفت في النصف الثاني من عقد التسعينيات، وتالياً تحوّلت سوريا تدريجاً من استيراد محصول القمح إلى تصديره منذ عام 1996، حيث تم تصدير نحو 3,8 ملايين طن خلال الفترة الممتدة من عام 1996 لغاية عام 2004، وبذلك تم تحقيق الأمن الغذائي، وتوفير خمسة ملايين طن كمخزون استراتيجي من محصول القمح»، يؤكد المهندس قطنا.
وهذه أيضاً حال سلع زراعية وصناعية كثيرة، تحولت البلاد إلى إنتاجها محلياً والاستغناء نهائياً عن استيرادها، قبل أن تبدأ حكومة ناجي عطري، بعد منتصف العقد الأول من القرن الحالي بتحرير التجارة الخارجية.

... وعادت الثمانينيات!

لم تكن مسيرة تكوين الاحتياطي الاستراتيجي بذلك النقاء الذي قد يتوقعه البعض، ولا سيما في ما يتعلق بالسلع والاحتياجات المستوردة، إذ حضر الفساد بقوة في بعض صفقاتها لجهة نوعية السلع المستوردة وأسعارها ومواصفاتها، فضلاً عن شروط التخزين ومواصفاته، وتعرض بعض المستودعات للسرقة على أيدي القائمين عليها، فيما لا تزال مثلاً حادثة استبدال القمح بالتراب في أحد مستودعات مؤسسة الحبوب حاضرة بسخرية في أذهان السوريين.
ومع ذلك، فإن البلاد دخلت الأزمة وفي جعبتها احتياطي ضخم من العملات الأجنبية، ومن السلع الغذائية، ومن الاحتياجات الأساسية الأخرى. احتياطي تختلف التقديرات حول قيمته الإجمالية، إذ بحسب مسؤول بارز في حكومة المهندس ناجي عطري فإن البلاد دخلت الأزمة وفي جعبتها احتياطي نقدي من العملات الأجنبية قدره 20 مليار دولار، من دون أن يتمكن من تقدير قيمة الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الرئيسية الأخرى كالقمح والطحين والسكر والأرز والدواء والمحروقات وغيرها. إلا أن المدير العام السابق للمؤسسة الاستهلاكية قدّر قيمة الاحتياطي من مادتَي السكر والأرز في عام 2011 بنحو سبعة مليارات ليرة.
لكن مرة أخرى، تتكرر مأساة الثمانينيات، فالعقوبات الغربية والعربية على سوريا منذ بداية عام 2011، وتراجع الإنتاج المحلي بفعل المعارك والاشتباكات، وسيطرة المجموعات المسلحة على مناطق الثروات والموارد الطبيعية ونهبها للمستودعات والمخازن الاستراتيجية، إضافة إلى الفشل الحكومي بإدارة الأزمة، كل ذلك جعل البلاد تستيقظ في يوم ما لتجد مثلاً أنه ليس لديها من الطحين ما يكفي لتشغيل الأفران والمخابز سوى كمية يوم واحد، فيما باقي الاحتياجات الرئيسية تركت بعهدة القطاع الخاص، الذي وإن نجح في ملء الأسواق بمختلف أنواع السلع والمنتجات، إلا أنه في الوقت نفسه فرض على الأسواق أسعاره، والكميات التي يريد، والمواصفات التي يرغب. وهذا ما يشجع الدكتور الحمش على المطالبة بوضع «الاحتياطي الاستراتيجي لجميع السلع والمواد تحت يد الدولة، لا القطاع الخاص. فالغاية من الاحتياطي هي تأمين احتياجات المواطنين، وضمان انسياب السلع في الأسواق بأسعار مناسبة لجميع الشرائح الاجتماعية، وخاصة المتضررة منها في أوقات الأزمات، لا ممارسة الاحتكار واستغلال حاجات المواطنين».
تماثل مخرجات الأزمة الحالية مع مخرجات أزمة الثمانينيات لجهة ما آلت إليه حال الاحتياطي الاستراتيجي، يطرح تساؤلات عن إمكانية أن تقود الظروف الحالية إلى ثورة في الإنتاج المحلي مشابهة لما حدث في السابق، وهو حدث يربطه المهندس قطنا على مستوى القطاع الزراعي باتخاذ «القرارات اللازمة لتعديل السياسات الزراعية باتجاه إعادة دعم وسائل تحقيق أعلى إنتاج ممكن من القمح، من خلال تعزيز نشر التقانات الزراعية وإعادة الاستقرار في توفير مستلزمات الإنتاج من حيث الكم والنوع وفي المواعيد المناسبة في مناطق الإنتاج، وبأسعار مدعومة مع إعادة النظر بسياسة التسعير، بحيث يكون التسعير مجزياً ويحقق ربحاً مناسباً للمزارعين».