استطاع وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، على المستوى العملي فرض أداء سياسي وأمني مطبوع بشخصه وبأفكاره إزاء الضفة المحتلة وقطاع غزة. أبرز المحطات التي ظهرت حتى الآن، معادلة «العصا والجزرة» لمواجهة العمليات الفلسطينية المنطلقة من الضفة، متجاهلاً التنسيق مع السلطة، فيما شكلت الهجمات الجوية غير المسبوقة منذ سنتين عنوان السياسة الأمنية إزاء غزة. فيما العنوان السياسي تمثل بإعلانه التمسك بمعادلة «إعادة الإعمار مقابل نزع السلاح» الفلسطيني.يمكن الافتراض أن ليبرمان يشعر بقدر من الزهو بعد الهجوم الجوي الإسرائيلي على القطاع، لكونه لم يؤدّ إلى رد متدحرج. ولن تكون مفاجئة محاولة تسويق مقولة إن ما جرى أسهم في تعزيز صورة الردع الإسرائيلي. لكن، في المقابل، تجدر الإشارة إلى وجود أكثر من مقاربة في الساحة الإسرائيلية لتفسير التصعيد الأخير؛ هناك من يرى أنه جاء نتيجة لإملاءات ليبرمان، وآخرون يرون أنه صعود طبيعي في الرد على خلفية استمرار إطلاق الصواريخ. ضمن هذا الإطار، يأتي ما أعلنه رئيس أركان الجيش، غادي ايزنكوت، بأن الرد الإسرائيلي هدف إلى تعزيز الردع، وإنتاج وضع أمني أفضل.
مع ذلك، استناداً إلى مواقف وأداء سابقين، يمكن التقدير بأن العديد في دوائر صناعة القرار السياسي الأمني في تل أبيب، يرون أنّ من المبكر الجزم بهذه النتيجة، ويتوجسون من تداعيات هذا المسار، إذا أصر وزير الأمن على مواصلته. خصوصاً أن الطرف الفلسطيني لم يقل كلمته النهائية، رغم امتناع فصائل المقاومة حتى الآن عن الرد على الهجمات الجوية الإسرائيلية بما يتناسب مع أهدافها العسكرية والردعية، فضلاً عن أنّ من الصعب جداً على المقاومة التكيّف العملي مع هذه المعادلة التي يحاول ليبرمان فرضها.
كذلك هناك من يفسر في الساحة الإسرائيلية امتناع «حركة المقاومة الإسلامية ـــ حماس»، تحديداً، عن الرد في هذه المرحلة، انطلاقاً من قلقها على تأثير أي ردّ ومواجهة في حل مسألة الرواتب، ودفعها إلى الرهان على هذا المسار، خصوصاً أنها «راضية عن الحل المؤقت لأزمة الرواتب بعد موافقة إسرائيل على تحويل الأموال من دول الخليج لدفع رواتب عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين في غزة»، كما نقلت صحيفة «هآرتس». وتدرك «حماس»، كما هي الصورة في تل أبيب، أن أي تصعيد سيؤثر سلباً في مشاركتها في الانتخابات البلدية المقبلة، إضافة إلى العامل الثابت المتصل بالحرص على تجنب الدفع نحو مواجهة شاملة كما حدث قبل سنتين. لكن العامل الأخير يفترض أنه حاضر لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.
يرفض نتنياهو الانجرار إلى عملية عسكرية تعيد نتائج الحرب الأخيرة

في المقابل، يحضر في تل أبيب تقدير مفاده أن حصيلة التجارب السابقة مع القطاع تؤكد أن حشر الطرف الفلسطيني قد تدفعه إلى ردود تؤدي بدورها إلى التدحرج نحو مواجهة قد لا يريدها أي من الطرفين ابتداءً. على هذه الخلفية، يبقى مستقبل الأداء الإسرائيلي محكوماً بالتوازنات بين الشخصيات الأساسية التي لها دورها الأساسي والحاسم في بلورة السياسات الأمنية، تحديداً، بنيامين نتنياهو وغادي ايزنكوت، وكذلك ليبرمان، وهل سيسمح للأخير بالدفع نحو مغامرة عسكرية لن تحقق أكثر مما تحقق في «الجرف الصامد»؟
لعل السيناريو الأكثر حضوراً لدى القلقين من الرد الفلسطيني، في تل أبيب، هو أن أي رد لاحق على تكرار مثل هذه العمليات الهجومية، سيحشر إسرائيل بين خيارات ضيقة، ستدفعها إما إلى الرد التصاعدي، وإما الانكفاء بما ينطوي على تراجع في صورة الردع. في هذه الحالة من الطبيعي أن يكون ليبرمان من الدعاة إلى الرد الواسع التزاماً بسقوفه العالية، وتجنباً لفشل استراتيجيته الأمنية المقترحة.
في ما يتعلق بموقف نتنياهو، أثبت أداؤه خلال الحرب الأخيرة على غزة، وما تلاه خلال تولي موشيه يعلون وزارة الأمن، أنه حريص على عدم التورط في أسلوب يوصل إلى عملية عسكرية تكرر نتائج الحرب الأخيرة، أو تحشره أمام خيار العملية البرية المكلفة جداً، ومن دون أفق واضح لمرحلة ما بعد الاحتلال لأجزاء من القطاع لو استطاع. وهناك حقيقة ينبغي أن تبقى حاضرة، أنه ما دامت نتيجة الجولة مقتصرة على ما شهدناه، فمن الطبيعي أن نشهد تنافساً وتبنياً لهذا النهج، كما ورد على لسان ايزنكوت، الذي أثنى على الرد الإسرائيلي، مثلما ورد أعلاه.
يبقى السؤال الذي ستتضح إجابته في المرحلة المقبلة: ماذا لو أدت هذه الضربات لاحقاً إلى ردود فلسطينية تناسبية وحشرت إسرائيل؟ عندئذ، على من ستلقى المسؤولية، وهل سنشهد تقاذفاً في الاتهامات، خاصة أنه لا يخفى أن أي مواجهة لاحقة، سيقابلها ليبرمان بالمطالبة بمزيد من التصعيد وصولاً إلى إسقاط سلطة «حماس» في غزة، وهو ما يعارضه نتنياهو وقيادة الجيش، لاعتبارات متعددة تتصل بالأولويات الإسرائيلية وبالمرحلة التالية والأثمان الباهظة التي سيدفعها الجيش؟
من جهة أخرى، برغم أن ربط ليبرمان إعادة الإعمار بنزع السلاح في القطاع، ليس جديداً، لكن طرحه من موقعه في وزارة للأمن وفي هذه المرحلة بالذات، يقطع الطريق على التكتيك الذي اتبعه نتنياهو خلال السنتين الماضيتين، عندما أظهر مرونة في التعبير، من دون أي ترجمة عملية لذلك. الفرق بين الاثنين أن أحدهما يريد الجهر صراحة بحقيقة السياسة الإسرائيلية من دون مساومات، والآخر يسعى إلى القبول بدفع ضريبة كلامية تجنباً لردود فعل دولية.
على خطٍّ موازٍ، يتبنى الجيش الإسرائيلي موقفاً يقوم على ضرورة تنفيس حالة الضغط في غزة، تجنباً لحشر الطرف الفلسطيني. ويمكن القول إن كل المواقف والتقديرات تنتمي إلى جذر واحد على مستوى المفهوم، لكنهم يختلفون في تحديد سقف المقايضة.
في السياق، يأتي تجاهل ليبرمان للسلطة الفلسطينية في الضفة، عبر معادلة «العصا والجزرة» في مواجهة العمليات، ترجمة لنهج يعتمده منذ ما قبل توليه وزارة الأمن، في محاولة منه لنسج علاقات مع شخصيات ومؤسسات فلسطينية مباشرة. مع هذا، من المستبعد أن يتبنى أي من القوى السياسية الوازنة في إسرائيل، موقفاً جدياً ونهائياً يرى فيه عدم الحاجة إلى بقاء السلطة، بمن فيهم اليمين الإسرائيلي.
على ذلك، يندرج الأداء المذكور ضمن سياسة الضغط على السلطة، بهدف جعلها أكثر تكيفاً وطواعية مع سياسة فرض الوقائع التي تعتمدها حكومة نتنياهو، في ضوء الواقع الإقليمي الذي ترى فيه الأخيرة فرصة تاريخية لفرض الحل الإسرائيلي، الذي لا يفسح المجال لأنصار «أوسلو» التكيف معه والتسويق له وسط الجمهور الفلسطيني. وبعبارة أخرى: باتت إسرائيل تطالب السلطة بسقف سياسي يشرعن الوقائع التي تعمل الأولى على فرضها في الضفة.