«جغرافيا العالم العربي وتاريخ مصر الحديثة»، عنوان الكتاب الجديد الذي أصدرته وزارة التربية والتعليم المصرية للعام الدراسي 2015/2016. الكتاب كما تناولته دورية «حتلنة استراتيجية» (تحديث استراتيجي) الصادرة أخيراً عن «معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب»، يتضمن فصلاً كاملاً عن اتفاقية السلام الموقعة مع إسرائيل، وتهميشاً متعمداً للقضية الفلسطينية.في المقارنة التي أجراها المعهد بين الكتاب الجديد والكتب السابقة المختصة في المضمار نفسه، يتضح أن الأول «يؤيد عملية السلام خلافاً لما سبقه»، ويشدد على «أهمية السلام في تعزيز الاقتصاد المصري». وفيما تردّ «الجارة» إسرائيل في الكتاب على أنها الدولة الصديقة والشريكة، وقد أرفق مفهوم الشراكة هذا باقتباسات لمناحيم بيغين وأنور السادات، وصورتهما التذكارية جنباً إلى جنب (للمرة الأولى في كتب التدريس)، فإن التطرق إلى سياق الحرب مع إسرائيل، والقضية الفلسطينية بات أمراً مهمشاً ونادر الذكر.
تشير الدراسة التي أعدها الباحث أوفير فاينتر، للمعهد، إلى أن «أهم بنود معاهدة السلام المرتبطة بالقضية الفلسطينية» قد حذفت من الكتاب الجديد، مثل «الاعتراف بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني»، و«مفاوضات تقرير مصير الفلسطينيين»، وهو ما كان يجري التعرض له في الكتب التي كانت في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. في المقابل، عرضت محادثات مدريد واتفاقية أوسلو كإنجازات تاريخية عظيمة، مع شطب المضامين التي تكررت في مناهج سابقة تحدثت عن دور مصر «الملتزم مساعدة الفلسطينيين لتأسيس دولتهم المستقلة».
كذلك صوّر الكتاب حرب أكتوبر على أنها «حرب دفاع عن النفس في سبيل القضية الفلسطينية» أوصلت المصريين إلى اتفاق مع إسرائيل عام 1979، بعد عام على توقيع اتفاقية كامب ديفيد. برغم ذلك، ينفي الكتاب أن يكون اتفاق التسوية قد «أبرم من منطلق أخلاقي أو اعترافي بحق اليهود في أرض فلسطين»، بل لـ«مصالح أخرى مرجوة». المستجد في الكتاب، الصادر في عهد عبد الفتاح السيسي، هو مضامين «التعامل الطبيعي» مع إسرائيل، انطلاقاً من كون الأخيرة «شريكة شرعية تاريخية واستراتيجية في تعزيز الاقتصاد المصري»!
في هذا الإطار، يلفت فاينتر إلى أنه في عامة الدول تجري العادة أن تدور نقاشات حول عملية إعداد المناهج الدراسية، وذلك لكون الأخيرة محدداً رئيسياً لشكل الرواية التاريخية للشعوب، ومرآة للهوية المجتمعية والقومية، كما يندرج إعدادها في إطار طموحات المجتمع وأهدافه.
لكن ما الذي حدث في مصر، في عهد السيسي تحديداً؟ الجواب أن القطاعات المصرية لم تحرك ساكناً، كما انزلق الخبر من وسائل الإعلام المصرية التي تعمدت التكتم على الموضوع لتخفيف حدة ردود فعل الشارع، فضلاً عن منع السيسي مسؤولين من التعليق على المضامين التدريسية الجديدة.
في المقابل، عدلت وزارة التربية والتعليم الأردنية مناهجها التعليمية الخاصة بملف التحولات في العلاقة مع إسرائيل، فأحدثت تعديلاتها ضجة كبيرة في الشارع.
إسرائيل الآن «شريكة شرعية واستراتيجية في تعزيز الاقتصاد المصري»

«جنح» الصيرورة

خلال الحروب بين مصر وإسرائيل، وصفت المناهج التعليمية المصرية العدو بأنه كيان استيطاني يهدف إلى السيطرة على الأراضي الممتدة من النيل إلى الفرات (إسرائيل الكبرى)، وهو ما يوضحه استخدامها مفاهيم ومضامين «ثقافة الصراع مع العدو».
بعد إبرام اتفاقية التسوية عام 1979، توقعت إسرائيل أن تستبدل مناهج التعليم المصرية مفاهيم «ثقافة الصراع» بمفاهيم «ثقافة السلام» من أجل بناء علاقة ودية بين الشعب المصري، والإسرائيليين، على غرار العلاقات التي رسمها طرفي المعاهدة، وتكون بدراسة الأجيال «ثقافة السلام»، ولكن الكتب الدراسية لم تركز على استخدام هذه المفاهيم، بقدر تركيزها على منفعة الاتفاق، المتمثلة في مصلحة مصر في استعادة نصف جزيرة سيناء، وحقن الدماء وتقليص عدد «الضحايا»، وتحقيق الاستقرار الأمني، وحماية الموارد، وإنعاش السياحة.
كذلك استغلت المناهج المصرية الاتفاقات التي وقعت لاحقاً بين العرب وإسرائيل، خاصة الأردن والسلطة الفلسطينية، والمحادثات الإسرائيلية مع السوريين واللبنانيين (غير المباشرة) بهدف الحصول على «إجازة شرعية، وإقناع الأجيال المصرية بأنها اختارت الطريق السليم».
بعد توقيع كامب ديفيد، ثم «معاهدة السلام»، صارت القضايا القومية العربية والوطنية المصرية شأناً هامشياً في كتب التدريس المصرية. ويستدل من أحد الأبحاث التي أجريت بهدف معرفة مركبات الهوية المصرية، التي تناولتها كتب الدراسة في الثمانينيات، أن 54 بالمئة من المضامين شددت على أن الهوية المصرية الوطنية هي فرعونية، تليها المضامين التي استخدمت للتشديد على هوية مصر العربية، لكن بنسبة أقل لم تتجاوز 30%. أمّا هوية مصر العربية القومية، فنالت نسبة 16% من مجمل المضامين التي تحدثت عن الهوية.
لاحقاً، استبدلت بعض الكتب التي تحدثت عن هوية مصر العربية القومية بكتب أخرى، بهدف التشديد على المركب الفرعوني في تكوين الهوية المصرية على حساب باقي المركبات. واستنتجت أبحاث أخرى، استند إليها فاينتر وأجريت على المضامين التدريسية، أنه جرى إلغاء حقيقة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، وأن إسرائيل لم تعد كياناً غير شرعي، فضلاً عن تجريدها من صلتها بالمشروع الإمبريالي العالمي. مع ذلك، بقيت فلسطين في حدود الـ67 «كياناً محتلاً» مع التشديد على أن عاصمتها هي «القدس الشرقية فقط».




«هو ده السلام الدافئ يا فندم»!


لم يأتِ تغير المناهج من الفراغ، بل تزامناً مع مستجدات سياسية طرأت على علاقات مصر وإسرائيل، بدءاً بعودة السفير المصري إلى تل أبيب بعد مغادرته إلى مصر عام 2012، مروراً بلقاء وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شطاينس، ووزير الخارجية المصرية، سامح شكري، وصولاً إلى اتفاق تل أبيب والقاهرة على صفقات بشأن تصدير الغاز الطبيعي، وبالتأكيد ليس نهايتها التعاون الوثيق في مواجهة الجماعات المسلحة في سيناء.
يمكن لمس تأثير هذه المستجدات على المنهاج الجديد بمقارنة بسيطة مع الكتاب القديم، فيتبين أنه في كتاب 2002، على سبيل المثال، خصصت نحو 32 صفحة للحديث عن القضية الفلسطينية والحروب مع إسرائيل، وأمّا مشروع السلام، فحظي بثلاث صفحات فقط. في المقابل، خصص الكتاب المعد للعام الدراسي الحالي 12 صفحة للحديث عن القضية الفلسطينية والحروب مع إسرائيل، فضلاً عن إلغاء فصول من كتاب التاريخ كانت قد تحدثت عن صلاح الدين الأيوبي، بحجة أن عرض هذه الحقائق التاريخية «قد يشجع على الإرهاب والعنف»، وأن حذفها يهدف إلى محاربة الأيديولوجية الإسلامية «المتطرفة عقائدياً».
وزارة التربية والتعليم المصرية لم تكتفِ بحذف الحقائق التاريخية وإلغائها فقط، بل حمل منهاجها الجديد اعترافاً واضحاً من مصر بإسرائيل، مع تأكيد «حق» الأخيرة «في حماية حدودها واحترام سيادتها». ويشير الباحث فاينتر، أخيراً، إلى أن «هذه الخطوة المهمة عملية تراكمية سيكون لها إسقاطات على صياغة ورسم ملامح مواقف أجيال مصرية شابة».