نتائج «فك الارتباط» توشك أن تتظهّر على الأرض. لكنّ الخطوة التي أقدمت عليها «جبهة النصرة» بعد مماحكات امتدّت قرابة سنتين لا تبدو مؤهّلة لإحداث قلب جذري في خريطة المجموعات المسلّحة كما كان يؤمل منها، رغم أنّ عدداً من «الرموز» يحاول الإيحاء بعكس ذلك، وعلى رأسهم السعودي عبدالله المحيسني (عرّاب «جيش الفتح»). وبدلاً من أن يكون «فك الارتباط» مقدّمة لتربّع أبو محمد الجولاني زعيم «فتح الشام/ النصرة» على رأس هيكليّة «مُعارضة جامعة»، راحت الخلافات تتجذّر في صفوف «الجبهة»، بينما تستعدّ المجموعات «الجهادية» المتمسّكة براية «القاعدة» للقطاف. ويأتي على رأس تلك المجموعات تنظيم «جند الأقصى» الذي يُتوقّع أن يُشكّل قبلةً جاذبةً لمنشقّين عن «النصرة» جلّهم من «المهاجرين». ولا يبدو أن الانشقاقات المتوقّعة ستقتصر على هؤلاء، بل يُنتظر أن ينضمّ إليهم عددٌ غير قليل من «الأنصار» السوريين المتمسّكين بالراية «القاعدية». «بازار» الانشقاقات في صفوف الشخصيات البارزة كان قد افتتحه بلال خريسات (أبو خديجة الأردني) الذي شغل مناصب «شرعيّة» عدّة؛ منها «القاضي العام في الغوطة» علاوة على مهمات أخرى (منها ما هو أمني) في حمص وإدلب، ليعود خريسات نفسه و«يبشّر» بانشقاق أبو همام السوري (سمير حجازي) القائد العسكري السابق لـ«النصرة» وأحد المؤثرين في نشأتها وترسيخ نفوذها. وروّج خريسات رسالة منسوبة إلى أبو همام تفيد بانشقاقه وتعزو الأمر إلى «فك الارتباط». وأثارت الرسالة جدلاً كبيراً لأن مقتل الشامي سبق أن أعلن مرتين في أوقات سابقة، وهو ما دفع بعض المصادر «الجهاديّة» إلى القول إنّ «رسالة الانشقاق منحولة». فيما أكّدت مصادر أخرى أنّها صحيحة، وأنّ أنباء مقتل الشامي التي روّجت سابقاً كانت بغرض التمويه. وبرزت أمس أنباء تشير إلى إقدام وجهٍ بارز جديد من «الرعيل الأوّل للنصرة» على مفارقتها، وإعلان الطلاق معها بسبب «فك الارتباط». المنشقّ الجديد هو إياد الطوباسي (أبو جليبيب الأردني) الذي كان لفترة طويلة أحد أبرز وجوه «النصرة» في الجنوب السوري و«أميراً عسكريّاً» لها في درعا. وسارع بلال خريسات نفسه إلى الترحيب بالانشقاق، عبر نقل «تغريدات» نشرتها صفحة باسم أبو جليبيب على موقع «تويتر». ويُدلّل على عمق الأزمة التي تعيشها «فتح الشام» وتتهدّدها بمزيد من الانشقاقات المماثلة دخول أحد رموز السلفية «الجهادية» أبو محمد المقدسي (الأردني من أصل فلسطيني عصام طاهر برقاوي) على الخط. المقدسي الذي كان حتى وقت قريب أحد أبرز المؤثرين في قرارات «النصرة» وواحداً من «آبائها الروحيين» سارع أمس إلى تقديم نصائح لـ«صقور النصرة» (أصحاب الانتماء القاعدي، ومعارضي فك الارتباط). ويُمكن وصف تلك النصائح بـ«المشروطة» إذ استهلّها المقدسي بالقول «إذا كان مشروع الاندماج على وشك التبلور بين فصائل كبرى خلال أيام، فنصيحتي للصقور عدم ترك مراكزهم لبغاث الطيور». وتمحورت النصائح حول مناشدة «الصقور» الحفاظ على مناصبهم لما فيه مصلحة «الجهاد». وطلب المُنظّر المعروف بصلاته الوطيدة مع الاستخبارات الأردنيّة من «الصقور» أن «يستوعبوا الاندماج ولا يفشلوه، لأنه ضرورة مرحلية»، وقال «لا تتركوا مناصبكم خشية الانحراف والمؤامرات، بل الزموها فأنتم حرّاس مشروع تحكيم الشريعة». وتعكس كواليس «فتح الشام» حالة من الاضطراب والتخبّط خلّفتها ردود الفعل على خطوة «فك الارتباط»، إضافة إلى توجس معارضي «الفك» من مشروع «اندماج» كاد أبو محمد الجولاني أن يُعلن موافقته عليه قبل أيّام. ويصف مصدر «جهادي» ما يدور في الكواليس بأنّه «صراعٌ بين حُماة الإرث القاعدي، ومروّجي الأفكار القُطريّة الهدّامة». يشرح المصدر لـ«الأخبار» أنّ «تقديم مصلحة أهل الشام دفع الجهاديين الصادقين في صفوف (النصرة) إلى القبول بخطوة الفك على مضض، لكنّهم أخذوا مواثيق وعهوداً من أصحاب الشأن بأن الخطوة لن تحرف الجهاد عن مقاصده». ووفقاً للمصدر، فقد فوجئ هؤلاء بمشروع «الاندماج» المطروح، وترويجه أفكاراً بعيدة عن «روح الجهاد وتحكيم الشرع، ما قد يُشكّل مقدمة لتمييع الغاية بعدما ضُيّعت الراية». ولا تتوافر معلومات وافية عن مشروع «الاندماج» العتيد، لكنّ المؤشرات تشي بأنّه وصفة «استخباريّة» أعدّتها بعض الجهات الداعمة. المصدر «الجهادي» ذاته اتّهم جماعة «الإخوان» بالوقوف وراء المشروع «التهديمي» على حد وصفه. ومن المرجّح أنّ «حركة أحرار الشام الإسلاميّة» تُشكّل الدعامة الثانية لمشروع الاندماج إلى جانب «فتح الشام». لكنّ حال «أحرار الشام» لا تبدو أفضل من نظيرتها، فالانقسامات الحادّة التي تعصف بالحركة تجاوزت إطارها السري وبدأت أخيراً في الخروج إلى العلن. وراجت أخيراً أنباء عن «انشقاق متوقّع» لـ«ألوية صقور الشام» عن صفوف «الحركة»، فيما تؤكّد معلومات «الأخبار» أنّ ذلك الانشقاق بات أمراً واقعاً منذ فترة طويلة، من دون الإعلان عنه. وتقول المعلومات إنّ زعيم «الصقور» أبو عيسى الشيخ (أحمد عيسى الشيخ) أخطرَ شركاءه في «الحركة» قبل قرابة شهرين بأنّ «الصقور لن يعلنوا انفصالهم حرصاً على وحدة الصف، لكنّهم سيستعيدون قرارهم المستقل إلى أن تتبدّل الأحوال داخل الحركة». وكانت «ألوية صقور الشام» قد انضمت إلى «أحرار الشام» في آذار 2015 (راجع «الأخبار»، العدد 2549). ومن المعروف أن ريف إدلب يُعتبر الحاضنة الأساس لـ«صقور الشام»، ولا يزال قائدها «أبو عيسى» يحظى برصيدٍ «شعبي» هناك قياساً بباقي قادة المجموعات. وتفيد مصادر محسوبة على «أحرار الشام» بأنّ «الشيخ لوّح أخيراً بأنّ خيار إشهار الانفصال بات مطروحاً بقوّة إذا أقدم قادة (الأحرار) على الاندماج من دون مشاورة». ويُعتبر الشيخ من أنصار «الطروحات القُطريّة» في نظر كثير من قادة «النصرة» و«الأحرار». وبرغم أنّ الظروف التي يعيشها كلّ من «فتح الشام» و«أحرار الشام» لا تبدو مواتيةً للمقامرة بخطوة جديدة «غير مضمونة العواقب»، غيرَ أنّ خيار «الهروب إلى الأمام» يحظى بحظوظ وافرة قد تدفع دعاة «الاندماج» إلى استعجال إعلانه. مع ما يعنيه هذا من زيادة حظوظ الانقسامات في صفوف الطرفين. كذلك، يبدو «جيش الإسلام» بعيداً عن القبول بالاندماج المطروح لأنّه يخرق «المحاذير السعوديّة». أمّا أبرز ما يستدعي الوقوف عندها في مشروع «الاندماج» الموضوع على الطاولة فوقوف السعودي عبدالله المحيسني وراءه. المفارقة تتجلّى لدى المقارنة بين مشروع «الاندماج» الذي يُبشّر بـ«نضال سوري خالص يسعى إلى التحرر وإرساء حكم وفق الشريعة الإسلاميّة المعتدلة يراعي الأقليّات» (وفقاً لما أكّدته مصادر متقاطعة لـ«الأخبار») وبين ما يمثله المحيسني الذي بات رائد النظريات التكفيريّة وراعي معسكرات الانتحاريين «الأشبال» («الأخبار»، العدد 2672).



«المهاجرون» إلى أين؟

رغم أنّ معظم «المهاجرين» كانوا من معارضي خطوة «فك الارتباط»، إلا أنّهم لم يقدموا حتى الآن على القيام بـ«انشقاقات جماعيّة». ولعبت جهود «الشرعيين» المؤثّرين دوراً أساسيّاً في تأخر حدوث انهيار من هذا النوع، بعدما خاضوا نقاشات طويلة مع قيادات «المهاجرين» تمحورت حول «صوريّة فك الارتباط» والضرورات التي جعلته «شرّاً لا بدّ منه». لكن الأيام الأخيرة بدأت تُنذر بتبدّل في مواقف «المهاجرين» وخاصة في ضوء «مشروع الاندماج» الذي لم تحظَ تفاصيلُه برضى أصحاب الهوى «القاعدي». وما لم تُجرَ تعديلات جوهريّة على المشروع قبل إعلانه (أو إلغائه كليّاً) فمن المتوقّع أن يشدّ قسم كبير من «المهاجرين» الرحال إلى صفوف تنظيم «جند الأقصى». كما تبدو الجماعات الشيشانيّة وجهةً مُحتملةً لشريحة كبيرة من «المهاجرين». كذلك، يُرجّح أن يختار المقاتلون التركستانيّون المنضوون في صفوف «لواء المهاجرين» التابع لـ«النصرة» الانضمام إلى «الحزب الإسلامي التركستاني».