أمام مكتب البريد في شارع عمر المختار، وسط مدينة غزة، ارتفع صوت أبو محمد الذي خرج من المكتب صارخاً: «حرام عليكم... شو عامل أنا؟». صراخ الرجل سمعه العشرات برغم الضوضاء التي سببها احتشاد المئات من زملائه، الذين أتوا لتسلّم رواتبهم المتأخرة، من المنحة القطرية المنتظرة طويلاً، خاصة مع استمرار أزمة رواتبهم للعام الثاني على التوالي.أبو محمد، وهو موظف في وزارة التربية والتعليم، انتظر ساعات الصباح المبكرة للتوجه إلى مكتب البريد على أمل تسلّم 1600 دولار من مستحقاته، لكنه صدم عندما قيل له: «لا يوجد لديك دفعة»، ثم تبين أنه حال آلاف الموظفين الذين توجهوا إلى مكاتب البريد المنتشرة في القطاع.
وزارة المالية في غزة أعلنت أن 2882 موظفاً من وزارتي التعليم والصحة حرموا «المكرمة» القطرية.
وكان وكيل وزارة المالية، يوسف الكيّالي، قد وصف استثناء الموظفين بأنه قرار تعسفي وصادم، قائلاً: «بعد تدقيق الكشوف من الأمم المتحدة ومن الجهات الأمنية التي أشاروا إليها، وصلت أمس الكشوف التي ستستفيد من المنحة وصدمنا بحجب عدد من الموظفين وهم 2882 موظفاً، 50٪ منهم من وزارتي التعليم والصحة، ما يدل على أن قرار المنع ليس مهنياً».
وأوضح الكيالي أن إجمالي المبلغ المطلوب لتسديد رواتب المحرومين من العسكريين والمدنيين من المنحة هو 70 مليون شيكل (18 مليون دولار)، وهو مبلغ يفوق إيرادات «المالية».
وفي وقت لاحق، ذكرت وزارة المالية أن ملفات 1518 موظفاً لا تزال قيد التدقيق.
يشار إلى أن عدد الموظفين في حكومة غزة السابقة، التي تديرها حركة «حماس»، هو 40 ألف موظف، منهم 18600 عسكري، كان السفير القطري، محمد العمادي، قد ذكر أنهم استُثنوا من «المكرمة الأميرية»، التي قيمتها 31 مليون دولار وتصرف مرة واحدة للموظفين المدنيين.
يشار إلى أن موظفي حكومة غزة لم يتلقوا رواتبهم بصورة كاملة ومنتظمة منذ أكثر من عامين، فيما تصرف دفعات مالية شهرية لهم لا تتجاوز 300 دولار أميركي، تعادل 45% من قيمة الراتب الأساسي للموظف.
ووفق متابعين للملف، فإن «قطر سلمت الأموال للأمم المتحدة التي تولت مهمة تأمين إدخالها إلى القطاع عبر سيارات خاصة، كذلك لم تكن مسؤولة عن متابعة ملفات الآلاف من المدنيين والعسكريين المحرومين المنحة». وقالت المصادر إن العمادي «طلب من مالية غزة تدبر أمر المحرومين المنحة من موازنتها الخاصة».
توضح المصادر نفسها أن كشوف الموظفين المدنيين سلمها السفير القطري للجنة أمنية ثلاثية تتكون من المخابرات الإسرائيلية والأمم المتحدة وجهات استخبارية أخرى لم يُفصح عن هويتها. وتمحور عمل اللجنة حول فلترة أسماء الموظفين المدنيين لتدارك خطأ سابق وقعت فيه في المنحة القطرية السابقة، التي صُرفت عقب حرب عام 2014 واستفاد منها عدد كبير من موظفي العقود المؤقتة والمديرين العامين.
لكن التدقيق في هوية الموظفين المدنيين الذين حرموا بداية يوحي بمعيار استخباري أكثر من كونه مهنياً. والسبب في ذلك أن السواد الأعظم من الموظفين الذين لم تصلهم المنحة هم ناشطون في حركات المقاومة الفلسطينية.
ومع أن «حماس» سارعت إلى استثمار الحدث في اتهام السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس بالضلوع في التلاعب بالكشوف المدنية، فإن الرؤية السياسية لا تخرج الحدث من السياق المألوف. يعقب المحلل السياسي الأمني هاني حبيب بأن «إسرائيل هي اللاعب الأساسي في معطيات الوضع الفلسطيني كافة، لذلك لا يوجد شيء غريب في تدخلها وفقاً لمصالحها في إعطاء أو حرمان أيٍّ من الموظفين».
ويضيف حبيب: «المنحة القطرية في الأساس منوطة بالعلاقات القطرية ــ الإسرائيلية التي لا يمكن تجاوزها، ومن الطبيعي أن تخضع المنحة للتدقيق وفق المصالح الإسرائيلية».