هل يستفزّ الوضع الاقتصادي والمناخ السياسي، الحاليان والمقبلان، الطبقة الوسطى في مصر؟ هذه الطبقة بالفعل مستفزة، لكن هل إلى الحدّ الذي يجعل أفرادها غير قادرين على التحايل وانتظار أمل الاستقرار؟السؤال ليس سهلاً طرحه بين جماهير جربت الثورة في «25 يناير»، وأخذت على قفاها في النتائج النهائية، بل هو سؤال ممنوع ــ مرغوب في بلد تنام فيه الطبقة الوسطى فوق سرير المرض وبين أفران الجوع منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهي لم تمش على قدميها طوال ذلك إلا في الـ18 يوماً الأولى في ميدان التحرير، ثم عادت إلى سريرها.
ومنذ الثورة، سحقت سياسات السوق وجنون الأسعار وانهيار الجنيه عظام أبناء الطبقة الوسطى التي تئن أصلاً، ويبدو أنه في غرفة المرض لا تفهم السلطة الحالية أن للصبر حدوداً؛ التردي الاقتصادي، الذي تعانيه مصر الآن، وانسداد نوافذ الحل، يجعلان نُضج الشروط الموضوعية للثورة بوجهها الأول أكثر وضوحاً، لكن يبقى التحرك مرهوناً بعوامل كثيرة، أهمها أن هذه الطبقة تاريخياً كانت ولا تزال مترددة في ضربة البدايّة، وهي إن فعلتها بلا قيادة، فإنها تحتاج إلى قائد يتبنى مطالبها بحق قبل أن تحلّ الحادية عشرة مساءً وتزدحم الطرق. وهذا غير متوافر، بل ليس هناك تنظيم جماهيري أو حزب قادر على توجيه الجماهير وصوغ برنامج ثوري متكامل.
حتى مفهوم الطبقة الوسطى في مصر يعاني منذ أيام محمد علي باشا، حينما أُريد لها أن تكون عربة تابعة لقطار الوالي الاستثنائي، مع أنها آنذاك حملت على أكتافها نقل مصر من التخلف إلى الحداثة، وارتبط هذا الأمر، بالباشا، الذي أدخل التعليم والتصنيع ليوظف طاقات أبناء الفلاحين المصريين في خدمة مشروعه الكبير. وبعد عقد أو اثنين، بدأت ثمار الطبخة العليّة تظهر: المصريون في الجيش، والوالي محمد علي يمنحهم أراضي زراعية مثل الأجانب والمماليك، لكن هذا لم يعنِ أن الأمور جرت سهلة، وسلسة.
أحد أبناء الطبقة الوسطى الناشئة (الضابط أحمد عرابي) يقود انتفاضة كبيرة ضد الإنكليز والخديوي توفيق، بعد صدور قانون التصفية عام 1880، والانحياز إلى الضباط الأتراك والشراكسة على حساب المصريين وتدهور الوضع الاقتصادي، بسبب توجيه جانب كبير من دخل مصر إلى تسديد الديون الأجنبية (سيناريو سيحدث قريباً بسبب سياسات نظام السيسي الحالي). وبرغم أن الإنكليز أجهضوا الثورة ونفوا عرابي ورفاقه، فإن ثمة تأثيراً لهذه الموجة في مشاعر أبناء هذه الطبقة (الأفندية والضباط وعمال الدواوين العمومية)، ستظهر في ثورة 1919.
كانت هناك عوامل خدمت توسيع قاعدة الطبقة الوسطى، أبرزها مدرسة المهندسخانة (الهندسة)، في عام 1820، والمدرسة الطبيّة في 1827، والعامل الثاني إنشاء الجامعة المصرية (1908)، التي كانت مطلباً رفعه أبناء الشريحة العليا من الطبقة الوسطى (أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد)، فصارت الجامعة قاعدة مُعتبرة من المتعلمين المصريين، الذين سيؤسسون لاحقاً الأحزاب السياسية، والتكوينات النقابيّة، والصحف، والشركات الصغيرة، وينزلون في الشوارع، ضد الاستعمار الإنكليزي، وفساد الحكومات الملكيّة.
ليس هذا فحسب؛ كانت الطبقة الوسطى على موعد مع المشاركة في كتابة أول دستور مصري (1923) حقق بعض التوازن في الحقوق، وهو ما خلق في العشرينيات طبقة وسطى نسبيّة فعالة في مجالات التجارة والثقافة والسياسة، مع أنها أقل بدرجة من شريحة الباشوات وكبار التجار والصنّاع، فيما الهوّة بينها وبين الطبقات الدنيا كانت كبيرة.
هؤلاء الفقراء (فلاحون، وعمال مدن، ومتعطلون) سينتظرون حتى 1952، كي يطرقوا باب الطبقة الوسطى، فيفتحه جمال عبد الناصر واسعاً، قبل أن يغلقه أنور السادات بسياسة الانفتاح الاقتصادي، التي أضعفت تلك الطبقة كثيراً وأمرضتها حتى وصلنا إلى يومنا هذا.
تتعامل الدولة المصرية مع هذه الطبقة بمنطق أنها المموّل (تبرعات لصناديق، وتبرعات لمشروعات قومية، وضريبة القيمة المضافة المتوقع تطبيقها)، لذلك، الموعد الأدق في يد أبناء الطبقة الوسطى، الذين يشكلون الآن حوالى 50 مليون مواطن من إجمالي 90 مليوناً، طبقاً لتقديرات حديثة من «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء».
المشهد داخل تكوينات هذه الطبقة الوسطى يؤشّر على اتساع بؤر الغضب وغياب الاستقرار: الأطباء والصحافيون، ونقابات مهنيّة أخرى، وحملة درجات عليا، وأصحاب المعاشات... كلهم غاضبون من تجاهل حقوقهم، فهل تعي الدولة خطورة ذلك أم أنها تؤمن بالسلاح بين يديها. وفق الرصد، يظهر أن القاهرة تلقي بين وقت وآخر قرارات تودديّة، لكن من دون حل نهائي. أما ما يعطل الغضب مؤقتاً، فهو أن الشرائح المستقرة (كالموظفين في هيئات الدولة بمختلف أنواعها وهم بالملايين، غير راغبة في المخاطرة، وخاصة الآن، لأن مصالحها الصغيرة لم تمسّ بعد.
على الناحية الأخرى، الفقراء هم الأكثر تضرراً من السنوات الأخيرة، لأنه بموازاة استمرار سياسات السوق وندرة فرص العمل الداخليّة، ورفع الدعم عن الطاقة، وانصراف الدولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية، كلها تعني أن نسبة واسعة من الفئات الكادحة (عمال القطاع الصناعي والتجاري وأجراء اليوميّة والسائقون والحرفيون..)، تشعر بصعوبة في تقبل الوضع الاقتصادي.
ورغم أن غالبية هؤلاء فوضوا السيسي، فإنهم الآن غاضبون، بعدما نزلت طبقتهم إلى مستوى أقل في الدخل، وسلّة الاحتياجات. وفيما ينفق الفقراء على التعليم 1.9% من دخلهم السنوي، ينفقون على الطعام والشراب حوالى 46%، فيما تنفق الطبقة الوسطى نحو 60%، وفق أرقام رسمية.
وفق أرقام رسمية حديثة، أبناء الطبقة الوسطى حوالى
50 مليوناً

وغالبية الفقراء كانوا قد ربطوا بين السيسي، وعبد الناصر، الذي يعتبرونه «نصير الفقراء والفلاحين»، لكنهم اكتشفوا أنه امتداد لسمات آخر أيام نظام حسني مبارك؛ في العامين الأخيرين، زادت الفوارق بين الطبقات كثيراً، ونزلت قطاعات غير هيّنة من الطبقة الوسطى إلى الأقل، وزادت نسبة الفقراء والمتعطلين، كما ارتفع مستوى التضخم الشهري في حزيران الماضي عن مثيله في العام السابق بنسبة ٠.٨٪، والسنوي ١٤.٨٪، بسبب كابوس الدولار.
بالعودة إلى السؤال الأول، لا يمكن نسيان أن الطبقة الوسطى تتصف بأنها إصلاحيّة، وتميل إلى مهادنة الحكم القائم، ولا تسعى إلى أن تكون صاحبة الفعل في علاقتها مع الدولة، مع أن «ثورة يناير» غيرت نسبياً هذه السمة، فتكونت لديها شرائح واعية شاركت في «يناير» و»انتفاضة 30 يونيو»، بل صارت أكثر معارضة لسياسات الدولة في مجال الاقتصاد ومحاربة الفساد وضبط الأسعار. ومعنى ذلك أننا ربما نكون إزاء متغير اجتماعي جديد: حالة تفكيك وتركيب طبقي، قد تُنتج طبقة عريضة جديدة من الفقراء والملايين الخارجة من لعنة الطبقة الوسطى.
بعيداً عن العوامل الاقتصادية، المُنتجة للاحتجاج، هناك عوامل سياسيّة خطيرة، مثل التنازل عن السيادة على جزيرتي تيران وصنافير، والتراجع في سجل حقوق الإنسان، واستبعاد الشباب من الحياة السياسية، وإضعاف الحياة الحزبيّة. كل هذه مسائل تؤرق المصريين، وتجعل شعار (عيش – حريّة – عدالة اجتماعيّة) شعاراً مشروعاً من جديد، ولكنه بحاجة إلى تنظيم جماهيري قادر على الحشد وصياغة برنامج.
سلطة السيسي الآن تواجه أزمة اجتماعيّة وسياسيّة شبيهة بالتي أسقطت مبارك، وهي ساهمت في صنعها، كما تعرف «ونُص» أن شعبية الرئيس في أدنى مستوياتها، ليس بسبب السياسات الاقتصادية الماضية التي أوجعت الغالبية فقط، بل بصدد التبعات الأخطر بعد إقرار حكومة شريف إسماعيل، قرض صندوق النقد الدولي، يوم أمس.
وبما أن البرلمان «بصّيم»، فالأرجح أنه لا مفرّ من ثورة جماهيرية عفويّة (تضمّ تنويعات طبقيّة)، حتى لو توقفت عند حد تغيير رأس النظام، الذي لم يعد قادراً بآلته الدعائية الضخمة على الترويج لمشروعاته الاقتصاديّة النظريّة بين الناس، لذا يلجأ إلى صناعة التشويش بشماعات المؤامرات الخارجية وقوى الشر. وبات لدى مراقبين أن النفخ في «حدّوتة ترشح عصام حجّي» للرئاسة، وغيره من المرشحين الوهميين في الداخل، ليس الهدف منها الهجوم على هؤلاء فقط، بل دعم السيسي الذي يواجه «مؤامرات»، وإظهاره في موضع الرئيس الزاهد في الحكم، وعبر ذلك يجب الضغط عليه شعبياً للترشح لولاية رئاسيّة ثانية حفاظاً على استقرار الوطن!
هذه التدبيرات، قد تضرّ أكثر مما تنفع، بل تسرّع عملية التغيير، وخصوصاً أن الفقراء، وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى، لم تعد تثق في وعود السلطة المُنحازة إلى رجال الأعمال، كما تحسب حسبة السيناريو الأسوأ، غير ناسية مقولة السيسي في شباط الماضي، حينما التقى رؤساء تحرير الصحف المصريّة: «دعم الفقراء أخطر على اقتصاد مصر، من الفساد»!